تحاول المدينة الصغيرة أن تستعيد بعضا من حيوية اقتصادية عرفتها منتصف سبعينيات القرن الماضي، انتهت بعد إحجام الشركات الأجنبية آنذاك عن الاستثمار في القطاع المعدني على وقع إكراهات أمنية واضطراب سياسي.
في السنوات القليلة الماضية استعادت مدينة أكجوجت مكانتها كإحدى أهم المدن المعدنية في البلاد، في ظل تصاعد أسهم شركات أخرى تبيع وتشتري الذهب، وصعود اثنين من أبنائها سلم السلطة، أحدهما حكم لسنتين والأخر حكم منذ 2008، وانتخب مؤخرا لمأمورية ثانية.
حكاية مع المعادن الثمينة
تقع أكجوجت في مكان مستوٍ من أرض انشيري المعروفة بقلة نباتها في معظم فصول السنة عدا موسم الخريف، مناخها جاف وحار وهي تعود لعصور جيولوجية سحيقة، تتمدد على صفيح ساخن معظم شهور السنة، وتفور من غبارها ألسنة المعادن الثمينة الملتهبة، وهجُ النحاس يحجب بريق الذهب، فقد تأكد أنه بين ثنايا التربة النحاسية تكمن ثروة صفراء لا تقدر بثمن، بحسب ما يقول شيخنا؛ أحد عمال شركة نحاس موريتانيا (أم سي أم).
تاريخيا يعود للفرنسيين السبق في اكتشاف أول معدن للنحاس عام 1954، حينها كانت تحت نير الاستعمار الفرنسي، حيث دأب الفرنسيون على استغلال الثروات دون أن يشعر أهل الأرض، من خلال المكتب الفرنسي للدراسات الجيولوجية الذي يعود له الفضل في التخطيط لأول نشاط معدني في المدينة وذلك من خلال تأسيس شركة لإنتاج النحاس مطلع السبعينيات بعدما انضمت إليها شركة بريطانية ساهمت في رأس المال وشجعت على الولوج إلى الميدان.
مرت سبع سنوات سمان أنتجت فيهن الشركتان كميات كبيرة من المادة التي كانت رائجة في الأسوق في تلك الحقبة، فتأسست أولى لبنات المدينة بالقرب من جبل “غلب أم اغرين” الذي يعد أول مجسم صخري يستقبلك وأنت تودع نواكشوط في اتجاه الشمال، حيث السلاسل الجبلية باتجاه محافظات عديدة.
العصر الذهبي للشركتين لم يعمر طويلاً، حيث تدهورت أسعار النحاس عالمياً لتدخل الشركات المستغلة للمنجم في أزمة ثم تفكك عدتها وترحل عائدة أدراجها.
توالت على أكجوجت أربعة عقود عجاف شهدت خلالها المدينة نزوحا غير مسبوق باتجاه العاصمة ومدن الجذب الاقتصادي الأخرى لتسجل أكجوجت أقل نسبة من عدد السكان ضمن إحصاء العام 2000.
جدل وصراع
يطل جبل “غلب أم اغرين” على ناصية أكجوجت الغربية، يحجب أشعة الغروب ليبدأ عمله الأساسي مع انتشار الظلام، تتقد أضواء معامل شركة كينروس الكندية كمتاجر “ماكدولاند” من بعيد، أضواء تبهر وتسحر في ليل لا تسمع فيه غير أصوات ماكينات الحفر والسلق والتهوية والتسخين، إنها معامل (أم سي أم) تلك التي تثير بعملها جدلاً بين البسطاء وفي أوساط رجال السياسة.
وبينما تعمل الشركة كخلية نحل يغط السكان في النوم متهادين على صرير ماكينات عملاقة يخرج من كبد الأرض حجارة تتكسر عليها أحلام العمال تارة مسببة جرحاً غائراً أو كسراً مفصلياً أو طفحاً جلدياً أو كحة صدرية، يعلق أحد الكتاب المنحدرين من ولاية إنشيري.
يضيف الكاتب أن “كثيرين فقدوا حياتهم إما بسبب الاحتجاجات العمالية أو بسبب الأمراض القاتلة في إشارة إلى الأمراض التي تسببها عمليات استغلال المعادن”.
تؤدي مخلفات سموم “السيانيميت” المستخدمة بكثافة في معالجة المعادن إلى أضرار صحية مباشرة، هذا إذا لم يتم اتخاذ إجراءات الحماية الضرورية لذا تنتشر بعض الأمراض في صفوف السكان والعمال أغلب الظن أنها عائدة لتلك الأسباب، بحسب ما يقول طبيب في المركز الصحي بالمدينة.
ورغم كل ذلك فان الزائر للمستشفى الجهوي بالمدينة، قلّ أن يتصادف مع مريض يتعالج وكأن السكان كلهم معافون، غير أن ذلك لا يعكس وضعاً صحيا مثاليا بقدر ما يترجم عدم ثقة السكان في المستشفى الوحيد بالمدينة، وإصرارهم على العلاج في مستشفيات العاصمة التي لا تبعد عنهم سوى مسافة ساعة ونصف بالسيارة.
وفيما يرفض مسؤولو شركات المعادن الحديث للإعلام ويمتنعون حتى عن التقاط صور لمنشآتهم، يرفضون أيضاً التهم التي تلاحقهم بالحيف وما يمثله عملهم من مخاطر على حياة الناس وعلى البيئة؛ ويؤكدون أن شركاتهم تعمل على التحسين من الخدمات الأساسية للسكان كالمستشفيات والمدارس والطرق والمواصلات.
أما السكان فلهم رأي آخر بخصوص هذه الشركات، حيث يقول أحدهم: “لم يتركوا مكاناً إلا نقبوا فيه بحثاً عن الذهب، حتى قبور الأولياء لم تسلم”.