في بداية الصيف الماضي اتصل بي احمد عباس (او بوي احمد ولد العباس حسب الاسم المعروف محليا) ليدعوني على الغذاء على انفراد كما هي عادته منذ تصادقنا قبل اكثر من عشرين سنة . تعودت ان التقي بالشيخ الأديب اللبق كل شهر مرة واحدة على الاقل .يبدا الغذاء مبكرا ،على الساعة ١٢ ظهرا في الغالب ،وقد الفت واستطببت مائدته التي يراعي فيها الضوابط الصحية وأساسها الخضروات والأعشاب ومرقة الباميا والدجاج اللذيذة التي لا شك انها من بقايا عهده السوداني الذي لا يفتر عن ذكره.
ازدادت لقاءاتنا في السنوات الاخيرة بعد ان خفت حركة احمد عباس ولم يعد يقوى على رحلته اليومية على الأقدام الى فندق الهدى حيث مجلس ابن عمه رجل الاعمال مولاي ولد العباس الذي يكن له مودة خاصة ويشيد بذكائه الوقاد.
كان احمد عباس يحرص خلال لقاءاتنا على ان نبقى وحدنا ،وعادة ما يبدا الحديث بالسؤال عن أوضاع البلد المختلفة ،مركزا على الأخص على الجوانب الاقتصادية وآفاق اكتشاف النفط الذي كان يراهن على وجوده ودوره في احداث طفرة تنموية كبرى تخرج الوطن من التخلف والفقر.
بعد هذه الأسئلة التقليدية ،سرعان ما يتحول الحديث الى الموضوعات الفلسفية والفكرية التي كان مأخوذا بها ،وعادة ما يتخلل نقاشنا انشاد من عيون الشعر العربي التي يحفظ منها الكثير ،وهو الذي واظب طيلة عمره على قراءة كتب التراث والأدب وفي مقدمتها الاغاني لابي فرج الأصفهاني الذي لم يكن يفارقه ،فضلا عن ديوان سلطان الشعر العربي ابي الطيب المتنبي.
وقد كان احمد عباس نفسه شاعرا مجيدا وان كان مقلا ،حافظ على الذائقة الشعرية الشنقيطية ،لا يخفي إعجابه بشعر ولد محمدي وولد الشيخ سيديا واضرابهما.
بيد ان مفتاح شخصية الفقيد العزيز كان دون شك روحه الحداثية القلقة ومواقفه الوطنية التقدمية فكرا وممارسة .بدا احمد عباس هذا المسار حسبما ذكر لي مرات خلال رحلته في الثلاثينيات الى نيورو في مالي ولقائه ببطل المقاومة والجهاد العلامة الولي الصالح الشيخ حماه الله الذي بهره بوقاره وجاذبيته.ومن مالي اجتاز غرب افريقيا ووسطها الى السودان التي طاب له المقام فيها خلال الأربعينيات .كانت سودان ما بعد الحربين هي تلك التي يصفها لنا الروائي الفذ الطيب صالح في رواياته :مجتمع حي ووسط ثقافي لامع ونخبة متنورة ،ولم يكن احمد عباس الشنقيطي الاول الذي استمرا العالم السوداني في غرائبيته وبساطته ،لكنه كان الشنقيطي الاول الذي اكتشف جانبه الحداثي واندمج في نخبته الفكرية والسياسية الجديدة.
ذكر لي الفقيد كيف كان حاضرا خلال مرور العلامة اب ولد خطور بالسودان في رحلته للسعودية وكيف حرصت النخبة السودانية على استبقائه في بلادها ،وذكر لي كيف عايش حقبة المد الوطني التحرري في موريتانيا وهو في المنفى وكان شديد التعاطف مع تيار النهضة وحركة الشباب .
في السودان ،كان احمد عباس تاجرا نشطا ،وكان في سنواته الاولى يبيع الإبل في الاسواق المصرية فيقضي شهورا طويلة في القاهرة التي كانت تعيش اوانها لحظة نهوض حقيقي :انها قاهرة طه حسين والعقاد وأم كلثوم.. في القاهرة تعرف الفقيد على عيون الفكر العربي الحديث ،فأعجب اشد الإعجاب بالاتجاه التنويري الذي مثله سلامة موسى وطه حسين وكم كان معجبا باسلاميات طه حسين مواظبا على قراءتها.
طبعت سنوات القاهرة والخرطوم احمد عباس ولم يفارقه ذكراها حتى بعد عودته لبلاده في سبعينيات القرن الماضي .كان احمد عباس يكره اكثر ما يكره الجمود والتعصب ويغتم لما أصاب الامة من انحطاط وتراجع ،ويرى ان بلاده قادرة على الخروج من محنة التخلف ان هي حققت ثورة ثقافية كبرى تغير العقليات والأفكار.
رحم الله احمد عباس وانا لله وانا اليه راجعون