عز الدين أحمد
قبل أقل من شهرين، كان الكثير من المحللين السياسيين والمهتمين بالشأن الإفريقي ينظرون بخوف وقلق إلي ما ستؤول إليه الإنتخابات الرئاسية في السنغال خصوصا في ظل الإحتقان السياسي الشديد الذي تزامن مع إعلان عبد الله واد الترشح للرئاسة.
وكانت أكثر السيناريوهات تفاؤلا تتوقع دخول السنغال في متاهة شرعية الإنتخبات، وما يترتب عليها من جدل حول مشروعية السلطة المنبثقة عنها، كما حدث في عدد من الدول الإفريقية التوغو 2005، موريتانيا 2008 ، الغابون 2011….إلخ، في حين أن سيناريوهات أخري أقل تفاؤلا كانت تتحدث عن “ربيع سنغالي” علي غرار ما يحدث في العالم العربي من فوران اجتماعي يصل حد الإحتراب الطائفي والفئوي ، أما السيناريوهات المتشائمة فكانت تري في أزمة ساحل العاج التي عرفتها بين سنوات 2002-2011، والتي قسمت البلد إلي شمال وجنوب وشردت الملايين من العاجيين إلي ملاجئ الجوار ، صورة شبيهة لما يمكن أن تتطور إليه الأمور في السنغال .
غير أن شيئا من كل ذلك لم يقع ، وخالفت الأحداث توقعات المحللين المتشائمة وجرت الإنتخابات بصورة شفافة ونزيهة لم تشبها شائبة تزوير علي مرأي ومسمع من المراقبين الدوليين وباعتراف القوي السياسية في البلاد ، وخرج عبد الله واد من الرئاسة منتصرا شامخا ، رغم خسارته الإنتخابات ليسلم قيادة بلده إلي رئيس جديد، وخرجت دولة السنغال أكثر شموخا وأكثر تماسكا .
كل هذه الأحداث والتطورات جعلت من السنغال دولة عظمي في النادي الديمقراطي العالمي، وقد حصلت علي هذه العضوية عن جدارة واستحقاق، فهي عميدة الدول الديمقراطية في القارة الإفريقية ، ، ويحمل سجلها الإنتخابي إنجازات دمقراطية كبري تتمثل في إسقاط رئيسين من سدة الرئاسة بواسطة الإقتراع الشعبي المباشر وإحالتهما إلي التقاعد، بعد أن سحب الشعب ثقته فيهما، واستقالة ثالث عن طواعية واختيار، وهو بكامل حيويته العقلية والجسدية والسياسية ، ليتفرغ لهوايته المفضلة : كتابة الشعر!.
وتملك السنغال خبرة طويلة في الممارسة الإنتخابية التي عرفتها في النصف الأول من القرن التاسع عشر وبالضبط في سنة 1848 ، وهذا ما جعل السنغاليين دون غيرهم من الشعوب الإفريقية ، أكثر إيمانا بقدرة صناديق الإقتراع علي التغيير السياسي ، و حتى في مرحلة النضال الوطني ضد الإستعمار الفرنسي ، كانت ورقة الإقتراع هي السلاح ” الثوري ” المفضل الذي امتشقه المناضلون للحصول علي الإستقلال .
وفي مرحلة الدولة الوطنية المستقلة ، لم يتنكر السنغاليون لإرثهم الديمقراطي ، ولم تستهويهم بدعة الحزب الواحد الذي يقود المجتمع والدولة كما استهوت جيرانهم ، وظلت التعددية الحزبية هي القاطرة التي تقود الحياة السياسية في البلد .
وعندما بدأت جائحة الإنقلابات العسكرية تسري عدواها في القارة الإفريقية ابتداء من ستينيات القرن الماضي، بقي الجيش السنغالي في ثكناته وقواعده بعيدا عن السياسية ، ولم تلهه تجارة ولا بيع عن حراسة النظام الجمهوري، قانعا بمهمته التي رسمها له الدستور بدقة، في الوقت الذي كان عسكر الجوار في مالي وغينيا وموريتانيا وغامبيا وساحل العاج …إلخ يتهافتون علي السلطة كما يتهافت الفراش المبثوث، ليغوصو في وحلها . وقد قدم الجيش السنغالي بذلك الموقف درسا بليغا في الأخلاق العسكرية الحقة لجيوش المنطقة ، كما قدم خدمة جليلة لوطنه، مما أفسح الطريق أمام ظهور بيئة سياسية صحية مواتية لإزدهار العمل السياسي، ونمو طبقة سياسية نشطة ، يمثلها اليوم الرئيس المنتخب مكي صال وجيله ، تتحرك بحرية خارج الجهاز الإداري للدولة، تؤمن بمبادئ الديمقراطية، و بأن الممارسة السياسية وحدها – عبر صناديق الإقتراع – هي السبيل الوحيد للوصول إلي السلطة .
لقد نجح السنغاليون في الرفع من مستوي تجربتهم السياسية والصعود بديمقراطيتهم إلي المستوي الجامعي المتقدم، ويحق لهم أن يتيهوا فخرا بهذا النجاح الباهر الذي حققوه دون ” ربيع ” أو ” شتاء “! .
أما نحن في العالم العربي، فلا زلنا نعيد ونكرر الرسوب في مستوي السنة الأولي إبتدائي …. ولم نتعلم حتى حروف الهجاء !.