ذات يوم من عام 2008 أمسك موسى فال أول مدير لوكالة دمج اللاجئين بناصية جبينه وهو يستمع لسيل من الشكاوي، يمطره بها من باتوا العائدين الجدد. كان الإطار والسياسي المخضرم، يتلمس بداية الخيط في حل مشاكل تراكمت خلال سنوات من التهجير عن الأرض.
سريعاَ غادر فال بعد الاطاحة بالرئيس السابق سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله، وبعده حمل اللواء با مادين، قبل أن يغادر هو الآخر إلى الضفة الجنوبية، ليس لاجئا كما كان شأن آلاف العائدين، وإنما أمينا عاما لمنظمة استثمار نهر السنغال.
قبل أكثر من عام من الآن، وتحديدا في الرابع من ابريل العام الماضي، بدأ المحامي ووزير الاتصال الأسبق مهمة متعددة الأوجه على رأس الوكالة. لم تعد تختص بدمج اللاجئين، وإنما أضيفت لها عملية أوسع وأشمل، وهي محاربة آثار الرق، ودعم المتضررين منه.
لكن وصول فوج يناهز المائة من العائدين إلى مشارف العاصمة نواكشوط قادمين من بوغي، يطرح سؤالا كبيراً حول المشاكل التي يواجهونها. مشاكل بعضها قديم متجدد يتعلق بظروف الدمج، وحالة المخيمات، واتهامهم للحكومة بعدم الوفاء بتعهداتها، ومشاكل الحصول على الأوراق الوطنية، وتعويض الموظفين السابقين، وأخرى جديدة لعل أبرزها قضية الأراضي الزراعية التي أجرتها الحكومة لمستثمرين خليجيين.
المشاكل تبدأ من أجواء العودة نفسها، مرورا بالمياه المالحة، ومن يكون الجار المقبل للعائلات في قراها الجديدة القديمة. “سنبذل ما في وسعنا لحل المشاكل” يقول أحد أطر الوكالة، موجها الحديث إلى إحدى المجموعات، “لكنني أطلب منكم تجنيبنا مشاكلكم الشخصية”.
المشاكل الشخصية هي ما يسمم أجواء التعايش في قرى عديدة، على ضفاف النهر، اختارتها الوكالة للعودة المنظمة للاجئين القادمين من السنغال، “إنني أرفض أن يكون بيتي بجوار من دفع السلطات إلى ترحيلي” يقول عمر أحد العائدين مشيرا إلى بيوت طينية قريبة. مضيفا : “هم أبناء عمومتنا، لكننا نعتقد أنهم ساهموا في تهجيرنا قسرا آنذاك، واستولوا بالتواطؤ مع السلطات على ممتلكاتنا”.
“هذا نوع من الصعوبات التي تعترض عملنا” يعترف أحد كبار أطر الوكالة مشيرا إلى المناطق التي تأوي مخيمات اللاجئين، في المجال الممتد من روصو حتى بوغي. ” نريد أن نوفر لهم سكنا لائقا وفرصة للعيش عبر مزاولة مهنة، كما نريد حل المشاكل العاجلة والتي لا تسمح بالانتظار مثل مشاكل المياه التي تبدو ملحة”.
وفي سبيل تثبيت سكن العائلات اختارت الوكالة حلا مغريا، فعبر شراء 173 بقرة، يستطيع “عمر” وغيره من القادمين الجدد استعادة جزء من حياتهم، حين كانوا مربي أبقار قبل ترحيلهم، وربما يكون جلب مزيد من الأبقار مدعاة لقبولهم بحل آخر يجنبهم مساوئ الصدام مع أقربائهم وبالتالي تحاشي مشكلة جديدة.
قرى اللاجئين تتناثر على طرفي الطريق الذي شقته شركات متعددة، وسط سهول شمامة الخصبة. مزارع الأرز تنتشر قريبا من النهر..هنا كان بعض من يعودون اليوم يملكون مزارع صغيرة، قبل أن تصبح في ملك غيرهم.
السلطات تأمل أن تساعد الطريق في نهضة زراعية وصناعية، في هذه المنطقة الغنية والفقيرة معا.
عقلُ “عمر” العائد مشتت بين حلم زيادة رؤوس الأبقار، وبين امتلاك فدان للزراعة. ثمة أراض زراعية تطوع بها بعض الموريتانيين لتلبية رغبات اللاجئين، “لكن الزراعة تحتاج إلى إمكانات كبيرة”.. يقول أحد المراقبين المحليين.
بين البيوت الطينية لبلدة “كويبين” القريبة من روصو تنتظر “سالمتا” من الوكالة مساعدة لحل مشاكل عيش أسرتها، وفي جلسة سابقة للتشاور مع الوكالة لم تجد من شعار لتحفيز الحاكمين الجدد سوى عارضة زرقاء في إطار أبيض، على قميص قدم لسالمتا “رشوة” انتخابية للحزب الجمهوري، الذي ساهم في غربة “عمر” الطويلة عن نفس القرية بضعة أمتار وراء الضفة السنغالية من النهر.
ضوء في نهاية النفق
يجلس عمر مامادو صو كل صباح على حافة الطريق الرابط بين بوغى و روصو الذي يبعد أمتارا قليلة عن مخيمه، بحوزته بعض الأواني، في انتظار أن يجود أحد أصحاب السيارات التي تمر على الطريق بنقله إلى إحدى القرى المجاورة ليملأها ماء.
منذ أن غادر عمر مخيمات اللاجئين في السنغال، وهو مهموم بتوفير المياه لسكان مخيمه، فلا صوت يعلو على صوت الماء في كافة القرى والتجمعات السكنية المحاذية لضفة نهر السنغال.
في مخيم “دار السلام” يتصدر مشكل الماء مطالب عمر المتحدث باسم القرية حيث يطالب بتزويد القرية بمستودع مائي اضافي، أو حفر آبار ارتوازية صالحة للشرب، ويشدد عمر على ضرورة توفير الماء الصالح للشرب، لأن أغلب الآبار التي حفرت بإشراف منظمة دعم اللاجئين ليست صالحة للشرب لملوحتها وعدم جودة مياهها.
في الجانب الآخر من اهتمامات عمر وسكان الضفة يجري الحديث عن موسم الزراعة، في مساحة تمتد إلى أكثر من 600 كلم، وهي أراض خصبة تسقط فيها الأمطار بشكل غير منتظم تصل أحيانا إلى معدل 500 مليمتر في السنة.
كان عمر يحمل مذياعا صغيرا ويستمع إلى نشرة أخبار إذاعة موريتانيا، وفجأة أخذ يصغي باهتمام إلى تقرير يتحدث عن دعوة وزير التنمية الريفية، للمزارعين والفاعلين في القطاع الزراعي إلى جعل الفترة المقبلة “زراعية بامتياز”، من خلال المشاركة الفاعلة في الحملة الزراعية.
وقال الصحفي في تقريره إن الوزير، أعلن أثناء اجتماع ضمه بممثلي المزارعين ورؤساء المشاريع المتدخلة في حقل الزراعة عن زيادة حجم المساحات المروية التي ستستغل للزراعة لتصل أكثر من ضعف المستغلة في الحملة الخريفية الماضية، وزيادة حجم المساحات الزراعية المطرية لتصل إلى 230 ألف هكتار.
وأضاف أن الحملة القادمة تسعى كذلك إلى تحقيق معدل إنتاج من الأرز يصل إلى 5,5 طنا للهكتار الواحد مقابل 4 أطنان في بعض المزارع و5 أطنان في البعض الآخر خلال الحملة الماضية. ويعتقد الخبراء أن هذه الأهداف، إن هي أنجزت، ستؤمن تحقيق الاكتفاء الذاتي للسكان في مجال الحبوب.
وذكر التقرير بأن هناك نوعا من المصاعب التي تواجه الزراعة، لا تتحكم فيه مصالح الدولة كالفيضانات التي اجتاحت مناطق زراعية شاسعة على ضفة النهر متسببة في إتلاف الحواجز والمنشآت المائية.
كان التقرير مطولا، لكن عمر الذي يتحدث العربية بانكسار استمع إلى التقرير، وأبدى ارتياحه لهذه الاستيراتيجة الجديدة التي وضعتها الوزارة لخدمة موسمهم الزراعي، واكتفى بالتعليق قائلا “هذا كلام جميل، وبالنسبة لنا فسنساعد الحكومة على جعل الموسم بداية لنهضة زراعية غير مسبوقة خاصة أننا نمتلك عشرات الهكتارات الصالحة للزراعة في منطقتنا”.
اقتربت ساعة الغروب، وكان عمر على موعد مع عودة بقرته التي اشترتها له وكالة دمج اللاجئين ضمن برنامج استعجالي زود خلاله سكان المخيم بأكثر من 173 بقرة، وهي خطوة ثمنها السكان و أغلبهم منمون، ويشكل البقر جزءا من حياتهم وخصوصياتهم التقليدية.
يفضل عمر كما هو حال كل سكان المخيم، حياة التقري الفوضوي “فنحن منمون نبحث عن العشب في كل مكان” بحسب تعبيره، ليس هذا وحده ما يدفع سكان المخيم إلى التقري، على بعد أمتار من القرية المحاذية لهم، “هم أبناء عمومتنا لكننا نعتقد أنهم ساهموا في تهجيرنا قسرا آنذاك، واستولوا بالتواطئ مع السلطات على ممتلكاتنا”.
مشكلة أخرى لم تكن في بال زوجة عمر وسيدات المخيم، فأغلبهن منزعجات من قرار “الوكالة” توظيف اللاجئات العائدات في التعاونية النسوية التي مولتها لهم الوكالة بهدف دمجهن في الحياة العملية الإنتاجية.
نبض الحياة لا يتوقف على طول طريق (روصوـ بوغى)، تكسوها الأعشاب الخضراء من كل جانب، وتحفها مزارع الأرز والخضار في كل الاتجاهات، وهي حسب السكان ستساهم في فك العزلة عن مئات القرى المحاذية للضفة، وسيكون لها انعكاس ايجابي على اقتصاد البلد، “فنحن نعاني من مشكل حمل منتجاتنا إلى المدن لصعوبة إيجاد وسيلة نقل، لكننا نأمل أن يساهم الطريق الجديد على إنهاء هذه المعاناة” هكذا قالت عيشان بنت محمد.. سيدة في الستين من عمرها.
يجري الحديث بشكل خافت بين أبناء أهل الضفة عن انتشار الكثير من الأمراض والأوبئة في المنطقة، ولعل أخطر هذه الأمراض تفشيا مرض “السيدا” الذي يفتك في صمت بالعشرات من أهالي المنطقة، ورغم ذلك لا توجد على طول الطريق سوى لافتة واحدة كتب عليها “احذر فالسيدا مرض قاتل”.
تبدي الوكالة استعدادها لحل كافة المشاكل التي تواجه اللاجئين، باستثناء تلك المتعلقة بخلافات شخصية حاولوا جر الوكالة إليها، لكنها ظلت بمنأى عنها “لأنها لا تدخل في أجندة عمل الوكالة”.