يمتلئ صدر المكتبة الموريتانية الحديثة نسبيا بدواوين كثيرة للشعراء المعاصرين من أبناء المليون شاعر , وتزخر الساحة الثقافية الوطنية بقصائد هادرة مزبدة عظيمة وقوية ورنانة ومستلة من عبقرية نسيبة في الشعر مضمخة بشذى شنقيط الرحم الولود لأفذاذ العلماء الشعراء والشعراء العلماء مما يفتح التجربة الوطنية في الإبداع الشعري أمام عصر ذهبي من الصلاة أمام الحروف , تحضنه سماء صقيلة من الجمال الفني لشعراء الطليعة الموريتانيين وأفق رحيب تهل منه عصافير الشعر العربي الحديث ويمام الشعر الأجنبي والعالمي لتكسبه أجنحة سحرية قادرة على الوصول إلى أعماق الوجدان الإنساني الحيوية المفعمة بالقيم الجميلة وتحريك الكنز الجمالي الخاص وتفجيره في البيئة الثقافية المحلية والعالمية.
ومع ضرورة امتلاك الشعر لصبغة وطنية دامغة عبر تشذيب شجرته العالية من أجل جعلها وطنا لعصافير الإبداع وفننا للتجربة الرائدة العابرة إلى الكوني , تظهر إشكالية النص الشعري الخاص بنا , أو القصيدة الموائمة لبئتنا الثقافية والواقعية والنفسية دون الإخلال بالمعين المتوقد السرمدي للشعر ودون الخروج الواثب بعيدا عن مقاسنا ومتطلبات ساحتنا وواقعنا التراثي والحياتي
ذلك أن الشعر في موريتانيا بناء شامخ تمتزج في مفاصله القداسة والقيادة والجمال والحقيقة , فهو بحق ما وصفه واصف بأنه ( لو سألوا الحقيقة أن تختار لها مكانا تشرف منه على الكون لما اختارت غير بيت من الشعر ) فإذا كان الشعر هو ديوان العرب فإنه أيضا ديوان الشناقطة الذي قيد وسجل مآثرهم ورفع ووضع قبائلهم وأثار الحفيظة والنخوة والحروب والعهود , وهيأ للشعراء مكانة مرموقة وهيبة وافرة وصيتا خالدا حتى لقب الشعراء بألقاب دالة على الصولة مثل (الذيب) و (بوفمين) وظلت القصيدة هي المحرك الفذ لقيم المجتمع وهي في كل هذا على خطى على خطى القصيدة العربية القديمة حذو القذة بالقذة
فالشاعر إذا يضيئ وحده من أعلى ويقود الرأي بكلماته ولا شكل أدبي آخر يضاهي عمله الرائد في بعث إشراقة وضائة من الدياجي واختلاس حلم الوصول من تغريبة الطريق
هذه المكانة الخطيرة ترافق الشعر اليوم في موريتانيا , بالإضافة الى كون النص الشعري ممثلا للجمال الفني الجاذب للذائقة , فكان وما يزال المسيطر على أذواق الناس مع غياب النص الأدبي الموازي المتمثل في القصة والمسرحية والفن التشكيلي , لذلك فالشاعر الآن كما كان هو القائد المؤثر في الساحة الوطنية دون منازع , وهوالراشد الكبير الذي لا بلاغ لمستقبل ثقافتنا إلا به , وما أكثر ما ينتظره من هموم عليه وحده أن يقتحم عقابها , لينيرنا ويجللنا بالمعرفة ويفتح لنا الطريق الى مستقبل عظيم ويجعلنا أمة حية تعيش الحاضر بوعي وعمل وتخطو إلى الأمام بجد ووثوق
لكن .. بأي شعر ننقاد ؟ وبأي قصيدة نؤمن ؟ ما الرؤيا التي نحتاج ونشتاق ونريد ؟ وكيف هي ملامح الشعر الموريتاني الصادر حقا عن عبقرية المحلي ونكهة الحياة اليومية , وصراع المواطن وأحلام الطليعة ؟ وهل يمكن إبداع قصيدة موريتانية أصيلة قريبة وبديعة ؟
يبدو الشعر الشنقيطي ـ خصوصا القديم منه ـ جامدا على قوالبه نمطيا في تجاربه من أول وهلة , وذلك طبيعي
في بيئة مستولدة تراثيا من بيئة العالم الإسلامي العربي في أكثر تجلياته ركودا ألا وهو عصر الضعف الحضاري , عندما ارتفع عمود التقليد في الدين والأدب وقد وصل إلى الشناقطة التراث العربي موسوما بميسمه غير أن لم يكن عنيفا مطلقا لذلك شهد تتابع مدارس شعرية دل تعاقبها على تطور لافت , فقد استفتح بالمدرسة الجاهلية حيث الفحولة المستعارة عند امحمد ولد الطلبة ورصفائه لكن تصلب هذا التوجه انساب لينا مع نسيم الروح الأندلسية ثم إلى المدرسة الشعبية , ومع أن تلك كانت تجربة على صعيد شكلي محض إلا أنها كانت محاولة غير واعية للخروج من عنق الزجاجة ’ يضاف إلى ذلك أن الشاعر في القرن التاسع عشر أحس بعمق أن تجربته الإبداعية لم تأت بخير وذلك ما نجده عند سيدي محمد ولد الشيخ سيديا في قوله :
يامعشر الشعراء هل من لوذعي يهدي حجاه لمقصد لم يبدع
إني هممت بأن أقول قصيدة بكرا فأعياني وجود المطلع
إلا أن القرن العشرين كان كفيلا بفتح أعين الشعراء على التطور الجديد في حداثة الشعر مع ترعرع مشروع الدولة وصراع الاديولوجيات , فأخذ المؤهلون منهم في مراجعة ما كانوا يأخذون فيه ويعيدون , مما شكل ظهور القصيدة الموريتانية الحديثة التي مكن لها أمثال احمد ولد عبد القادر وكابر هاشم ومحمد ولد عبدي وغيرهم ممن حاولوا مجاراة وتأثر التجربة العربية الإحيائية وشعر التفعيلة والشعر الحر والنثري بأعمالهم التي طبعتها دمغة التعبير التقليدي مع فكرة التثوير الحديثة , غير أن السؤال بدأ يتسع حول رؤية مناسبة للقصيدة الموريتانية , ليس المحلية الضيقة السابحة في أفقنا المحدود القابلة للاستهلاك في بيئتنا , بل القصيدة الرائدة القادرة على زرعنا طلحا وثماما في روضة الشعر العربي والعالمي , لماذا لا تصل رسالتنا الشعرية رغم تطاول الأمد وطول الباع ؟ وتتابع عدة شعراء مهمين
يمكن تسجيل ملاحظات حول هذا الموضوع .
ـ القصيدة الشنقيطية المنشودة يجب أن تضيئ حتما برؤية الحداثة في الموضوع والتعبير الفني حتى تتحقق قاعدة لكل مقام مقال , وذلك عبر الانسجام في جسد اللغة الجديدة والمشاركة الوجدانية الواعية والمنتمية لقضية العصر
ـ لابد للشعر أن ينبض أبدا بدم شنقيط الحار أي يحمل صورة الأرض , حتى وهو يوغل في فضاء هذه الحداثة الشعرية , لابد أن يستعيد إيجابية تراثه وتنبع تجربته من رحمها النقي الصافي , دون الوقوع في الاستنساخ الأجوف والزخرف الفارغ , نحو حيوية تجسد روح الأصالة المعصرنة
ـ تحتاج القصيدة الموريتانية إلى مغامرة إبداع وتطوير جريئة , تستنبت بها تجربة قصيد فذة على صفحات ديوانها الخجول مما ليس مطروقا من قبل , أي تجريبا لا يخاف أن يقول ولا يرهب أن يجرب , ويتم ذلك عبر البحث الجاد عن سبل التجاوز الأقصى للمتداول وفتح المجال أمام الإبداع مهما كان رأيه , للخلوص إلى سما ت فنية مبتكرة تمهد لثورة شعرية جديدة .
ـ الشعراء أيضا لهم شخصياتهم الشعرية المتفردة , والثقافة رابطها الوثيق , أعني ثقافة الشاعر التي تسمو بتجربته إلى آفاقها وأهدافها , هذه توفر له جزء رئيسيا من مهمته التعبيرية وتنقله إلى آفاق أسئلة الفن وتساهم في تحريره ذهنيا ولغويا من سجون الواقع السطحية وتصقل بصيرته وتنمي قريحته وتدفعه مع التيار الصحيح متغنيا أو محترقا بالمدركات العميقة الحقيقية للمعاناة الإنسانية الأصيلة , وهنا لابد من تحديد أن ثقافة الشاعر غير محددة بفن أو ذوق أو علم , إنما خو يبحر في تراثه الأدبي والديني و الاجتماعي والسياسي ويخوض بحار كل ثقافة من أجل قتلها فهما .
ـ القصيدة الكاشفة لمظاهر الجمال في الوجود التي تغدو ضربا من الكشف كما رآها بودلير , لن تتجسد إلا في تجارب ماتحة من همومنا المعاصرة وأحلامنا بالصهر والخلق والإبداع والمشاركة ومكابدة الهم الوطني بسبر ومواكبة أبعاده ومعطياته ’ فيعكس صورته , ويتنبأ بأسراره إمكانا واحتمالا فمن الحتمي أن تنطق بالمكنون الحي الوجداني الجماعي المتوهج .
هذا النشوء الجديد لا تخلو منه بعض تجارب الشعراء الشباب من جيل محمد ولد الطالب وجاكتي سك ومحمد ولد ادومو وابو بكر ولد المامي وأضرابهم , فنتاج هؤلاء يحمل بعض التحفز والتفاعل مع هذه الإيحاءات , نجد تباشير ذلك مبثوثة في معاناتهم إبداعيا مع لحظة البوح الداخلي المرهف كما يشير إليه ولد الطالب ولو من بعيد
للناس حق البحث عن اسمائهم / حق الخروج من القماقم والجرار أو ظلمة الافكار
كما نتلمس آفاقا رحبة وتطلعا إشراقيا حالما لدى جكتي سك
هذا أنا , كل انكشافاتي رؤى ترتاد فوق المستحيل سموقي
فاستبشري حبا ولا تستهجني إن هز أركان المدى تحليقي
والوعي المتجدد بأن الشعر في ثوبه الحالي لم يغن شيئا عن المثل وإنتاج حيوية مليئة بالحياة في مقابل الإنجرار وراء الحيوية الهرمة , يقول ابو بكر ولد المامي
في كل يوم تعيش القصائد / بين القصور / وتقتل في عمقها الكلمات
تموت المعاني / ويبقى الرياء / لنا وطنا .
إن تجربة هؤلاء الشعراء وأمثالهم , وهم أحدث جيل شعري , متراوحة بين التفائل بمرفأ جميل والتشائم من حاضر معتم تتعفن فيه أسلحة الكشف , ومد القامات المرهفة إلى شاطئ الخلاص حيث يتم اختراق الليل الطويل بإصباح أمثل , ولو لمسنا غلوا في الغضب وعنفا في الخطاب وحدة في الصيحة ومرارة في العتب , وعلى قدر الألم الكبير تكون الصرخة عميقة .