الرحلة الشنقيطية إلى “جوانزو” تبدأ من صالة المغادرين بمطار دبي الدولي تحت وهيج الشاشات الصاخبة بالإعلانات التجارية، وسط طابور من الصينين يتخلله أفراد من مختلف الجنسيات.
تحتاج إلى دخول الصين إلى معرفة كلمة التحية: (ني هاو) وإتقان لغة الإشارة. الانجليزية ستقول لك: “غود باي” في المطار، ولن تسعفك لغات العالم. فالعملاق الذي يؤثر في حياتك اليومية، يتمترس خلف سور عظيم من الحواجز اللغوية والثقافية. فأنت في حضرة إحدى أعرق الحضارات وأكثرها اعتزازا بنفسها. قد تحتاج إلى اصطحاب بعض منتجات بلدنا، العضو الدائم في منظمة الدول المصدرة لـ “العلك وتجمخت”، حتى ولو كان سيثير اشتباه الجمارك. فالأطعمة الصينية ولو كانت حلالا، قد تعتبرها أبغض الحلال. فذوق الشرق الأقصى المولع بالبهارات يختلف عنه في بلادنا، التي وصفها أحد السياح الغربيين بأن مياهها هي الأعذب وأطعمتها هي “الأمسخ” في العالم.
عشرات العائلات العربية تصادفها في المطار الفسيح الذي يعتمد على الإضاءة الطبيعية بفضل هيكله الزجاجي ، فـ”جوانزو” تعد من أنجح مدن العالم في سياحة الحوافز، فبالإضافة إلى معرض الربيع الذي يستقطب مئات الآلاف، هناك الكثير من المقاصد والأنشطة السياحية: رحلات ليلية عبر نهر اللؤلؤ في اليخوت التي تتداخل أضواؤها الملونة مع أضواء ناطحات السحاب لترسم لوحة بألوان الطيف على صفحة المياه، عشرات حدائق الترفيه وحديقة الحيوانات التي تضم 400 صنف ومجمعا للأحياء المائية باسم “عالم المحيطات”، فضلا عن المتاحف ومراكز التسوق.
حاولت عصر ذاكرتي عندما خرجت من المطار، لاستحضار مفردات تعلمتها في زيارة سابقة للصين، لكن الذاكرة لم تسعفني إلا بـ”أنشودة المطر” للسياب، مطر… مطر… مطر… فمن زار جوانزو في فصل الربيع سـ”يبتل عليه لباسه”. أشجار الصنوبر والنباتات المتسلقة التي تغسلها المياه، تحاصرك طيلة الطريق إلى قلب ثالث أكبر مدنية في الصين. “شاهدت الشمس آخر مرة في جدة” يقول الشاب السعودي ناصر، وهو ينظر إلى السحب الداكنة تطبق قبضتها على ناطحات السحاب فتحيل ظهر المدينة إلى غروب، ويضيف: “ربما تنتظرني الشمس هناك”.
إذا كنت تنشد سحر الشرق، قد تصاب بخيبة أمل في البداية عندما تكتشف أن “جوانزو” التي صمدت في وجه كل الغزاة، استسلمت أمام غزو العولمة، غابات كثيفة من ناطحات السحاب، و”ماكدونالدز” يرافقك حيثما سرت. لكن لا تعجل، ف”جوانز” من المدن العالمية بمثابنة الكابتشنو من القهوة: لها نكتها الخاصة.
عند مدخل معرض “كانتون” الذي انعقدت المرحلة الأخيرة منه في الفترة من 1-5 مايو الجاري، يستقبلك الشبان والشابات مبتسمين بالنشرات الإعلانية لشركاتهم مقابل تزويدهم ببطاقة الأعمال.
يتمدد المعرض على مساحة 24 ملعب كرة قدم، وسط حدائق مشذبة على شاطئ نهر اللؤلؤ الذي يشق المدينة نصفين. تسمع لغات العالم أجمع كأنك في مبنى الأمم المتحدة: من أوروبا الشرقية والغربية والأمريكيتين وافريقيا، والعرب بلهجاتهم المختلفة واليهود بطاقياتهم الصغيرة والسيخ بعمائمهم الكبيرة، حتى يخيل إليك أن القرن الحادي والعشرين “صنع في الصين”.
تتميز المنتجات التي تعرضها حوالي 5000 شركة بالجودة والإبداع في التصاميم، إذ تحاول الصين من خلال معرض “كانتون”، تغيير الصورة النمطية عن تدني جودة منتجاتها، وهو ما تفهمه من أسئلة الاستبيان الذي تقدمه لك الفتيات على الممرات المفروشة بالبساط الأحمر كنوع من الترحيب بالزوار.
يتميز المعرض بدقة التنظيم وتنقل عربات الغولف الزوار بين أجنحته. وتحيط بجانبيه محطات مترو “جوانزو” الذي يعد من أحدث الشبكات في العالم، حيث ساهم في انسيابية حركة المرور في المدينة التي يقطنها أكثر من 12 مليون ساكن. رغم أناقة مقصورات مترو الأنفاق إلا أنه سيحرمك من مشاهدة المعالم السياحية للمدينة، وفي المقابل سيمكنك من متابعة مبارات إياب برشلونة – يوفنتس، رغم أنف “الجزيرة الرياضية”.
بدأ اكتشاف التجار الموريتانيين للصين في بداية الألفية الثالثة بعد حوالي 1100 سنة من وصول السيرافي، صاحب الرحلة المشهورة، إلى غوانزو. شاب موريتاني مغامر يصل من اندونيسيا عاكسا اتجاه ابن بطوطة. في ذلك الوقت كان التنين الصيني يستيقظ من سبات الاشتراكية، فيما كانت النمور الآسيوية جريحة تترنح تحت وطأة الأزمة الاقتصادية التي شهدتها أواخر التسعينيات. لم تكن الطريق مفروشة بالحرير، فبقي الشاب يتنقل في القطارات بين المدن، كما يقول، إلى أن اكتشف مدينة يشقها نهر صغير لا تتوفر على مقومات سياحية تذكر، باستثناء حديقة صغيرة للحيوانات والألعاب، تضم سيارات للسباق ومركبات مائية وبعض الحيوانات النادرة، من بينها جمل مسكين يمتطيه الزوار بواسطة سُلَّم. لكن ما شد انتباه الشاب ذلك السوق المترامي الأطراف الذي يوفر، كما يقول، تجارة التجميع التي تتناسب مع الطلب الموريتاني الضعيف الذي يَعُد ب”الكراطين” وليس بالحاويات. ويكتظ سوق “ييوو” ببضائع رخيصة متدنية الجودة.
انتشرت بسرعة مهنة الوساطة التجارية في “إيوو” فتبناها الطلاب والتجار. وتضاعف عدد المهاجرين الجدد إليها إلى أن أطبق فيلق “مرصت كابيتال” سيطرته عليها عام 2005 وضمها مقاطعة تابعة لنفوذذه باسم “يو” بالحسانية.
الوجود الموريتاني في الصين كان له أكثر من فائدة على اقتصادنا، فبالإضافة إلى أنه وفر على المستهلك التكاليف الإضافية Overhead الناجمة عن المرور بأسواق أخرى، فقد نشط تجارة إعادة التصدير، لوجود بضائع بأسعار منافسة في موريتانيا. لكن الجانب السلبي تمثل في إغراق السوق بالبضائع المقلدة والرديئة إلى أبعد الحدود. “المشكلة في فكرة السعر المفتوح” يقول أحد السماسرة في الصين وهو يلتهم سجارته بنهم. “التجار يطلبون أقل سعر دون اشتراطات في المواصفات، وهو ما يتم على حساب الجودة”.
خلافا لـ”جوانزو” التي تعتبرها الصين إحدى واجهاتها الكبرى على العالم، كهونغ كونغ وشانغهاي، فإن “ييوو” تعد عاصمة الغش التجاري في العالم، حسب تقرير غربي صدر عام 2004. إذ قدر التقرير الذي أطلق عليها “وول ستريت التزوير” أصناف السلع المقلدة في سوقها بمائة ألف صنف.
عندما كنت أحزم حقائبي للعودة للإمارات عشية آخر أيام المعرض كانت الشركات السياحية في “جوانزو” تمطر الزوار بعروض رحلات سياحية إلى جنان الصين الطبيعية مثل جويلين (أرجو من القارئ كتابة Guilin في غوغل والضغط على الصور)، اكتشفت حينها أنني كنت أحتاج إلى إجازة مفتوحة للدخول في “الفردوس الأرضي” كما يطلق عليها الصينيون.