وخلال الندوة التي تنظم للاحتفاء بالمدينة المنورة عاصمة للثقافة الإسلامية 1434هـ/2013م؛ قدم نائب رئيس جامعة العلوم الإسلامية بلعيون، الدكتور محمدو ولد المرابط، بحثاً حول “دور المسلمين في الحوار بين الحضارات في ظل التنوع الثقافي”.
وقبل استعراض المحاور الأساسية التي تطرق لها البحث، أستهل الباحث عمله بمقدمة ذكر فيها أن العالم الإسلامي والغرب المسيحي توجد بينهما قواسم مشتركة، يمكن معها إيجاد بِساط من العيش والتعاون، بعدما ظهر خطاب جديد يحاول أن يقرأ الغرب من زاوية حضارية، رغم الصعوبات التي تحاصره لتجاوز أسلوب الخطاب الذي يحمل لغة التحدي والمواجهة.
وانطلاقا من أن الخطاب الإسلامي يرى في علاقة المسلمين بالغرب أنها علاقة تدفعها الرغبة في العيش الكريم والسلام الشامل بين جميع الناس، سيما أن المسلمين يملكون حضارة هي في أساسها ومقوماتها حضارة إنسانية، فإن وجود الجاليات الإسلامية في الغرب يشكل عاملا يستحق حوارا حضاريا جادا، مما يؤدي إلى دمجها كعنصر فاعل في النسيج الاجتماعي الغربي، وذلك من خلال العمل على إشاعة روح المودة في المجتمع الذي يعيشون فيه، واحترام عقائد الآخرين وخصوصياتهم الثقافية.
وبما أن طبيعة الخطاب هي التي تحدد العلاقة بين الحضارات، تلك العلاقة التي شهدت تحولات كبرى، حيث أصبحت معقدة ومتشعبة، والنظرة إليها تختلف من باحث إلى آخر، فالبعض يلح على تفاعلها وتداخلها، وتأثيراتها المتبادلة، والبعض الآخر يلوح باختلافها ثقافيا، والتعارض فيما بينها، فإنه من الواضح في وقتنا الحاضر تلك الأصوات التي تنادي بضرورة التعايش السلمي وتجديد الخطاب الديني لإيجاد حوار حقيقي بين الحضارات والأديان والمذاهب، وتحديد العلاقة بين الحضارات واستغلال التنوع الثقافي باعتباره قوة محركة للتفاهم والتنمية والتعايش السلمي بين الأمم.
وأكد الباحث في مقدمة بحثه على أن تجديد الخطاب الإسلامي بضوابطه أمر مشروع وجائز؛ بل قد يرقى إلى درجة اللزوم والوجوب، وذلك بحسب متطلبات الواقع ودرجات الاضطرار والاحتياج إليه، لأن الاجتهاد الفقهي بالمعنى التخصصي الدقيق من المستلزمات في كل زمان ومكان، إذ تقتضيه الحياة وتجددها وتطورها مع حركة الإنسان، ومن ثم فهو ضرورة شرعية دينية وحاجة إنسانية واقعية.
واليوم فقد أصبح الخطاب الإسلامي “الحضاري” أكثر نضجاً وإدراكاً لحاجاته الحقيقية، وأكثر تفهُّماً للواقع الإسلامي والعالمي، وعنده من المرونة ما تجعله على استعداد لتقبل التجديد والتطوير، وهو ما انعكس على رؤيته للغرب التي نلمس فيها تطورا وتحسنا وتأكيدا على الحوار والتعايش السلمي بين الثقافات، بعيدا عن إيديولوجيا العولمة، بعد أن أصبح العالم أمام إشكالية مستعصية تتمثل في “عصر العولمة ومسألة تزييف الثقافة و أدلجتها”.
ومن هذا المنطلق وقف الباحث في المحور الأول على معاني بعض المفاهيم وتأصيلها مثل: – الحضارة والثقافة والتنوع الثقافي، وكيف أن مصطلح ثقافة يرتبط بمجتمع معيَن ومحدد الهوية، في حين أن مصطلح (حضارة) يُستخدم ليشير إلى مجموعات أكثر اتساعا وأكثر شمولا في الزمان والمكان، وأن كل حضارة هي ثقافة، وليست كل ثقافة حضارة، وبين أن عملية التثاقف بين المجتمعات تتم طوعا أو قسرا وهذا هو البعد الإشكالي للثقافة المتمثل في أنها نتاج تصادم الجماعات من جهة وحوار الثقافات والحضارات من جهة أخرى. وأن هذا البعد الإشكالي في الثقافة رافقه ما يمكن أن نطلق عليه “الأوهام الثقافية” التي تولدت عنها مقولات نهاية التاريخ، وصدام الحضارات، وثالوث القوة (العنف، الثروة، المعرفة) المتمثل في امتلاك مصادر المعرفة وحرمان الآخرين منها.
وسلط الباحث الضوء على: التنوع الثقافي وحوار الحضارات، وجزم أنه لا يمكن تصور حوار حقيقي بين الثقافات والحضارات إذا لم يكن هناك إقرار بمبدأ التنوع الثقافي، مبينا في النقطة الثالثة من المحور الأول المتعلقة بالحضارة الإسلامية والتنوع الثقافي، أن الحضارة الإسلامية اتسمت بتعاملها الإيجابي مع التعدد والتنوع في الدولة الإسلامية، حيث عمل المسلمون على وحدة قائمة على التنوع والقبول به باعتباره فطرة إنسانية، وخُلُق إسلامي ومظهر إيجابي من مظاهر الإسلام الذي يؤكد على قيم الحوار وأدب الخلاف، لما في ذلك من إنصاف للخصم واحترام للرأي الآخر وتفضيل لأسس التنوع الثقافي.
وبما أن العولمة تعتبر من أهم التحديات التي يواجهها التنوع الثقافي تطرق الباحث لإشكالية:
- التنوع الثقافي والعولمة،وبين انه بالرغم مما تنطوي عليه العولمة من الايجابيات إلا أنها تمثل في واقع الأمر تحديا حقيقيا للموروث الإنساني المشترك لأن التنوع الثقافي يدل على غنى العطاء الفكري للعقول البشرية على اختلاف ظروفها وبيئاتها،عكس العولمة التي تسعى إلى فرض نموذج ثقافي واحد مهيمن يلغي النماذج الثقافية المتنوعة الأخرى.
- وفي المحور الثاني من البحث حدد الباحث مفهوم الحوار باعتباره أنجع أساليب الخطاب بين الحضارات والأديان والثقافات المختلفة، مبينا:
ــ معنى ذلك الحوار وطرقه الناجعة، ومكانته في الدين الإسلامي، انطلاقا من أن الأديان لا تصنع الحروب، لأن الإسلام والمسيحية والديانات الأخرى لم تدخل في صراع بأنماطها المقدسة أي بالنصوص الكتابية المنزلة بل المؤسسات التي تمثلها، وهي نقطة جوهرية محط الانتباه والتأكيد لأن الصدام الحضاري الذي يتحدث عنه البعض، ليس صداما حول المسيح (عليه السلام) أو محمد (صلى الله عليه وسلم)، بل هو صراع بالقوة على الثروة والنفوذ، وفي هذا المجال بين الباحث ان المسلمين أدركوا طبيعة دينهم وعالمية رسالته، فقاموا يدعون الناس إلى هديه، فبدأ الحوار بين المسلمين ومشركي قريش، وسجل القرآن نماذج كثيرة – استعرض الباحث أمثلة منها – من هذه الحوارات التي تولى فيها الرسول صلى الله عليه وسلم الرد على المشركين.
وفي خاتمة البحث اعتبر الباحث أن الحضارة جاءت ثمرة لجهود أسهمت فيها جميع الأجناس والأعراق والثقافات، ومن العبث القول بالتفوق الثقافي لعرق على باقي الأعراق أو الدونية لعرق دون آخر، وأن المجتمعات الإنسانية تتطلع اليوم إلى تجنيد جميع قواها وإمكاناتها المادية والبشرية من أجل الحوار، وجمع الكلمة والعيش المشترك، وتطوير العلاقات الإنسانية والدولية على مستوى الأفراد والجماعات والدول والتجمعات الإقليمية والدولية، لأن الحضارة جهد مشترك.
حتى لو افترضنا أن حضارة واحدة ستنتصر وأن لغة واحدة ستعم وتنتشر، فمآل هذه اللغة أن تتفرع إلى لهجات، ومآل تلك الحضارة أن تستولد ثقافات متنوعة، لا يعني ذلك الأخذ بصفاء الثقافة وعزلتها، لأن المسألة لا تتعلق بجواهر حضارية لا تنفك تتصارع وتتصادم، حسب هنتغتون، بل الأحرى القول بوجود ثقافات تتفاعل بقدر ما تتنافس.
والثقافة الحية المتجددة تمتص ما عند الثقافات الأخرى من إبداعات وإنجازات، كما فعل المسلمون من منطق اليونان وفكرهم، وكما تعامل الغربيون مع الإنجازات الفكرية والعلمية في الثقافة الإسلامية.
وأكد الباحث في خاتمة البحث ان الوقائع الدالة على التجديد أكثر من أن تحصى، من ذلك ظهور المجددين من أعلام الفقه والفكر الإسلاميين على مر عصور تاريخ المسلمين، وقيام المؤسسات الإسلامية المعاصرة التي نهضت بمشروع التجديد والاجتهاد في مجالات الحياة المختلفة، ثم إن التجديد تحتمه طبيعة الحياة وضرورات الحوار والتواصل والتفاعل مع الآخر، وأن التجديد في الدين الإسلامي حقيقة شرعية، وضرورة إنسانيه، وله ضوابطه ومجالاته، وان على الدول ان تعمل على:
ـ تعزيز مبدإ الحوار بين مكونات المجتمع العربي والإسلامي والمجتمعات الغربية،
ـ وتفعيل القوانين والتشريعات والنظم الدولية والإقليمية والمحلية المتعلقة بالتنوع الثقافي،
ـ إعادة النظر فيها،مع التأكيد على احترام المجتمعات والأفراد،وعدم المساس برموزها الاجتماعية والدينية،
ـ وتشجيع البرامج والخطط والمشاريع الخاصة بإدماج التراث الثقافي بالتنمية من خلال الاهتمام بالسياحة الثقافية وتوفير مستلزمات تنميتها،وتعزيز مساهمات العلماء والمفكرين والأكاديميين والمشايخ والمجتمع المدني ودعم دورهم في الحوار الثقافي والحضاري،
ـ والتصدي للتيارات الهادفة إلى الاستغلال السلبي للتنوع الثقافي،
ـ والاهتمام بالثقافة الشعبية من خلال إظهار الجوانب الثقافية الداعمة للتنوع الثقافي واحترام سمات الهوية الوطنية،بالإضافة إلى تشجيع المؤسسات والهيئات والقطاع الخاص للمشاركة في الأنشطة الثقافية والحضارية وإحياء التراث الإسلامي،
ـ فتح نوافذ الحوار الفكري والثقافي مع كافة المجتمعات بالمشاركة في المعارض والفعاليات الدولية،والعمل على تضمين المناهج الدراسية مفاهيم ومضامين التنوع الثقافي،
ـ وتشجيع وسائل الإعلام التقليدية ووسائل التواصل الاجتماعي على إنتاج برامج توعوية هدفها زيادة الوعي بقضايا التنوع الثقافي، وتدعم حركة الترجمة للآليات والأدوات الخاصة بموضوع التنوع الثقافي،ونشرها على مستوى العالم الإسلامي بالإضافة إلى تشجيع الدراسات والبحوث الإسلامية والعلمية لإيجاد قاعدة معرفية مناسبة لمكونات التنوع الثقافي في المجتمعات،وكذلك حث الدول على زيادة الاهتمام بالقطاع الثقافي مادياَ ومعنويا،كل ذلك من شأنه أن يضمن حوارا جادا بين الحضارات يفضي إلى التعايش السلمي الدولي.