فجأة .. أخرجت الطبيبة صورة الأشعة لصدره الصغير، بدت لوحة شاحبة تتداخل في أبعادها مؤشرات على تلبس الرجل بأمراض عديدة.. شجون كثيرة بعثتها تلك النتيجة لصورة غير نمطية بالنسبة لمصور رسم بعدسته آلاف الصور، كانت كلها ناصعة فاتحة أدخلت السرور لأصحابها، قبل أن تتصدر مانشيتات الصحف الورقية في تسعينات القرن الماضي.
اليوم ينتابه نوع من الشعور بالموعظة، مقارِنا بين ما صنعته أنامله قبل عقود وما تقدمه الممرضة له من صور مفزعة لأحشائه. أمراض بالجملة تتوزع بين الرئتين والقلب والشرايين وصور أخرى من المعاناة.. لا “تُـصور” عوز وفقر.
محمدو ولد عبدالله طريح فراش المرض بعد عقود قضاها خلف العدسة. كانت بدايات الرجل مصورا مغمورا في صحيفة القلم الموريتانية، استهوته مهنة التصوير على غيرها من المهن فقرر أن يعيش أعزبا إلا من عدسة تأبطها لعقود، قبل أن يقرر وهو على مشارف الخامسة والستين خريفا أن يتزوج وينجب.
لم تكن الظروف مواتية للزواج وتكوين أسرة لابن العائلة الفقيرة القادمة من أحراش شمامة. “العدسة قد تلتقط صورا لكنها لا تلتقط طعاما للأطفال، ولا تجلب مالا للسعادة” يقول محمدو وهو يصارع ابتسامة مجاملة ينوء جسمه النحيل بحملها. ربما يلتمس العذر لنفسه في تأخر التحاقه بقطار المتزوجين.
بين جدران بيته الذي استأجره منذ سنوات يصارع أحد أقدم مصوري الصحف الموريتانية المرض ، يغرز في جسمه بكاء رضيعه الذي ولد بعد أن بلغ أبوه من العمر عتيا فيجد نفسه محاصرا بألمين.. ألم المرض وألم الفقر الذي يحول بينه وبين إطفاء حرقة جوع ابنه، وربما يكون بكاء الصغير اشد وطئا.
اعتاد محمدو السير حافيا مسافات بعيدة من أجل صورة، فقد كان العمل في صحيفة القلم التي كان يديرها الكاتب الصحافي المعروف الراحل حبيب ولد محفوظ، يتطلب منه التواجد في الوقت المناسب في مقر تلك الصحيفة، قبل أن يطلب منه المدير أن يذهب للتصوير.
يقول محمدو : “كانت مقالات حبيب رحمها الله في زوايته “موريتانيد” تختزل أوجها أخرى من معاناة المحرومين، كنت أجد في كل تلميحة منه تصويبا نحوي، ورغم ذلك استمتعت بالعدسة لسبب بسيط وهو أنني مغرم بها، ولا أعرف حرفة أخرى”
تدحرج المصور الموريتاني المخضرم في مقرات الأحزاب والمنظمات وفي الندوات والورشات، وداخل المهرجانات والتجمعات يضيء بعدسته زوايا معتمة، ويتمنطق في جلباب من الرضى بالمكتوب..ملابس تتسع لاحتضان ثلاثة أشخاص من وزنه.
يحتفظ محمدو بأكثر من 10 آلاف صورة في كناشه تختزل تاريخا مصورا لحقب متفاوتة من موريتانيا.
يتذكر تاريخ التقاطة لأول صورة بعدسته.. كان ذلك قبل أربعين عاما، أما الصورة فهي لأول رئيس موريتاني الراحل المختار ولد داداه. هكذا بدأت مرحلة التدوين بالصورة من خلال صورة لأقدم مصوري موريتانيا من أول رئيس لها.
يقول :”رافقتني هواية التصوير منذ الصغر، ثم قررت الهجرة إلى نواكشوط … بحثا عن عمل أمضيت سنوات بل عقودا في انتظار جريدة تنشر لي، قبل ذلك كنت أصور كل شيء، أحمل معي العدسة لأصور الطبيعة والحياة، وواجهت الكثير من الزجر والانتقادات من أناس يخافون الصورة، لكنني كنت شاهدا على جرائم ومجرمين التقطت لهم صورا أصبحت فيما بعد مرجعية لدى دوائر الأمن”.
اعتمدت معظم الصحف الموريتانية على ما كانت تجود به عدسة الرجل، فقد كانت تنشر معظم لقطاته، وكان يرى نفسه في كل صحيفة، يتذكر الزاوية والركن واللحظة التي اكتنفت الضغط على زر الكاميرا.
ظل الرجل مصورا لشخصيات وازنة في المجتمع، كان الوحيد الذي يلتقط الصور الخاصة لرئيس الجمعية الوطنية السابق ورئيس حزب التحالف الشعبي التقدمي مسعود ولد بلخير.
“قليلون من يأتمنون الناس على صورهم .. لقد كنت التقط الصور لبعض هؤلاء، منهم من يجود علي، ومنهم من التمس له العذر في عدم القيام بذلك، مهما يكن الأمر فمهنة التصوير لم تكن إلى حد قريب سوى هواية، ويعتبر بعض الناس أن المصور فيها .. متبرع بطبعه”. يقول المصور المخضرم.
يعاني الرجل منذ فترة من عدة أمراض عجز ن توفير العلاج منها لأنها تتطلب فحوصا ومختبرات، وربما عمليات جراحية معقدة. لكنه لا يفقد الأم ـ حسب قوله ـ في الخيرين، ممن رصدتهم ذات يوم عدسته و ممن يسعون إلى أن تظل الصورة واضحة وجميلة، في عالم يعيش على الصورة الرقمية واللقطات السريعة.. عالم اختلطت فيه الألوان، وأصبح من الصعب التمييز بين صورة أصلية وأخرى منسوخة.
رقم هاتف محمدو للمساعدة 47481753.