ولأنني بصدد الكتابة عن شيخي ووالدي الشيخ محمد مختار بن دهاه تغمده الله برحمته الواسعة ، كتابة مفصلة أرجو أن أوفق في إخراجها سريعا فإنني رأيت من اللازم المتعين علي وقد مرت سنتان على رحيله عنا أن أكتب عنه أسطرا قليلة ، تُوَفِي بعض حقه علينا من الذكر والترحم ونشر مكنون الفضل.
لقد كان الشيخ محمد مختار بن دهاه رحمه الله أمة بين الناس في الكرم والخلق، وحسن السمت :
جمالك أنساني الجمال كماله ….. وكل جميل كان منك جماله
وكل هوى إلا هواك جريمة ….. وكل بليغ ضاق فيك مقاله
يستوي عنده رحمه الله عطاء المال الكثير الجزل والدراهم القليلة وكأن المُعطَى عاطيه :
تراه إذا ما جئته متهللا ….. كأنك تعطيه الذي أنت سائله
لا فرق عنده بين وقت الر خاء ووقت الشدة فلا يضجر من ضيق حال يعرض له، ولا يركن إلى سعة في الحال وزيادة في المال ؛ ولذا لا تبدو عليه علامات هم واغتمام إذا لم يجد ما ينفق ويعطي ، ولا تظهر عليه مخايل فرح وانبساط إذا كانت عنده الأموال الجزيلة.
يسع الناس بأخلاقه ويفيض عليهم من بشره وعطفه ، جمع بين الحسن والإحسان:
هي المكارم لا عقبان من لبن …. شيبا بماء فعاد بعد أبوالا
كان رحمه الله شديد التوكل على الله لا يدخر لغده ؛ وكنت دائما أراجعه حين يأتيه بعض المال فأقول له:”هلا تركنا هذا للضيوف القادمين غدا نعاملهم به” ، فيقول لي “لغد رزقُه ” ولا يزيد على ذلك ؛ وهذا ما جعله يُقدم على مسائل كثُر ما أحجم عنها الناس ، كإعمار القرى النائية في الصحراء وجمع الناس في المحافل العظيمة لتعظيم أمر الدين ، واستضافتهم الاستضافة الكاملة الواسعة.
ومن مظاهر توكله على الله أنه إذا قصد إقامة مشروع خيري معين، كبناء مسجد أو حفر بئر فإنه لا يُعِدُ له المال بجمعه وكنزه ، وإنما يقول: إن صدق النية وخلوص التوكل يكفيان في إنجاز هذا العمل.
أما فيما يتعلق بأمر دينه فحدث ولا حرج؛ ففي جانب المحبة كان راسخ القدم دائم الفكر منهمر العبرة ؛ ولا أدل على ذلك من حسن معاملته للناس صالحهم وطالحهم ، حضَريهم وبدويهم، عالمهم وجاهلهم؛ يباسط الجميع ويخالقه بالخلق الحسن فتنتفع به القلوب وتربو ، وتزداد إيمانا وحبا لله ورسوله صلى الله عليه وسلم وإعظاما لهما، فقد هدى به الله قلوبا غلفا ، وأنطق ألسنة خرسا وأسمع آذانا صما؛ فاستوى حِسُها وإدراكها بالحاسة والبصيرة ، كل ذلك كان في نوع من الرفق والملاطفة يجعل الانسان له سهل الانقياد منشرح الصدر لا تكلف في فعله ولا التفات إلى ورا. فهو كما وصفه الشاعر:
تبوأ المقعد الأعلى وحق له == سعى بنفس ومال في الذي طلبه
و راية المجد والإيمان في يده==كم سد من خلة كم زال من عقبه
وكان سمحا كريما جامعا مثلا == شيخا عزيزا سخيا بالذي كسبه
تعود الصدق بذلا و الوفا شرفا == وحيثما حل حل الخير إذ جذبه
وكم تحلى بأخلاق يعز لها == ضرب المثال إذا ما المؤتلي ضربه
فالدين يخدمه والعهد يحفظه == والجار يكرمه من تحفة وهبه
والموت كأس وكل الناس شاربه == عزاؤنا أن خير الخلق قد شربه
فما رأت في مريد الشيخ قاطبة == عين محبته كلا ولا أدبه
ومن نافلة القول أن نذكر بدوره الكبير الذي قام به للنهوض بالطريقة التيجانية على ضفتي نهر السنغال بتوسيع دائرة آخذيها وتعميق معارفهم بها ، كما كانت له العناية بأحفاد الشيخ سيدي أحمد التيجاني رضي الله عنه فيجدون عنده من حفاوة الإكرام والاستقبال وصدق التعلق ما يجعلهم يعتقدون أنهم ليسوا إلا في ديارهم ووطنهم.
هذا غيض من فيض أوردناه تذكيرا وذكرا وسوف نزيده فضل إيضاح فيما سيأتي إن شاء الله.
نسأل الله أن يتغمده برحمته الواسعة ويسكنه فسيح جناته ويجازي خليفته السيد محمد الكبير بن دهاه ويعينه على القيام بأعباء المسؤولية؛ ويبارك في بنيه ذكورا وإناثا ويوفقهم للعض بالنواجذ على سيرته التي سار عليها في التعامل مع الخالق ومع الخلق وإنا لله وإنا إليه راجعون.