من منا يستطيع في هذا العصر الذي تتوفر فيه كل وسائل البحث والتدقيق والنقد، أن يقول أنا مسلم لا انتمي لأي من التيارات الفكرية الكبرى في التراث ،كأن يقول أنا لست سنيا، ولست شيعيا، ولست خارجيا، ولا معتزليا، ولا جبريا، ولا اختياريا، لأن الانتماء إلى هذه الأنساق الفكرية يؤدي للتخندق وأخذ موقف من المخالف ثم التعصب ضده أو له.
من امتلك تلك الشجاعة وأعلن أنا مسلم فقط سيرميه الجل إن لم يكن الكل من قوس واحدة ،ولن يقبل بعضنا حتى الاستماع إلى رأيه أو مقصده،بل سيقولون هذا يدعوا إلى مذهب بدعي جديد مخالف للملة ؟ مع أن القليل من التأمل والتفكير السليم قد يكشف للباحث عن الحقيقة أن الانتماء إلى تلك التيارات ليس شرطا في الإسلام بل هو تعبير عن تبني رأي فقط فهم في العمق تيارات فكرية ولدت من رحم السياسية ،وترعرعت على مضامين أيدلوجية تحمل ثقافة التنافر والتدابر في بعض الأحيان وحتى التكفير. الأمر ليس بتلك الخطورة التي قد يتصور البعض ،بل الخطورة في اعتبار التخندق وراء تلك التيارات واجبا دينيا، وأن الإسلام يقتضي ذلك؟ ، لقد حدد لنا الحق سبحانه وتعالى التسمية التي أرتضى لنا ،وأمرنا بأن نتمسى بها فأبدلناها لدوافع سياسية بهذه التسميات التي أصبحنا نعتبر المسلم لا بد له من الانتماء لها ،عارضين عن التسميات القرآنية التي أمرنا بها ،فقد سمانا الحق سبحانه وتعالى بتسمية واحدة واضحة الدلالة فقال [ فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون] وقال جل جلاله [ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين ] وأمر نبيه عليه أزكى الصلاة والسلام أن يكون من المُتسمِين بتلك التسمية [وأمرت أن أكون من المسلمين ] [ وأمرت لأن أكون أول المسلمين] .
لنراجع مواقفنا السلبية من الانتماء إلى مفاهيم ضيقة ، الإسلام أرحب منها بكثير ، ولنقف لحظة تأمل عميقة حول تلك الخنادق التي نتترس فيها منذ قرون ضد بعضنا ،ثم لنظر ما ذا حققنا ؟ ألم يتراجع بسبب ذلك التخندق مبدأ وحدتنا وهو مطلب قرآني ؟ ألم نكرس جهودنا منذ قرون في تكفير بعضنا بعضا وضرب بعضنا رقاب بعض ؟ أمور يندى لها الجبين حقيقة.
إن من يراجع نشأت هذه التيارات بعمق وحياد وعدم تشيع مع أو ضد سيخرج لا محالة بأدلة قاطعة أنها سياسية المنشأ ، وأنها ليست مطلبا دينيا ، وأن التعصب لها من أسباب كراهية المسلمين بعضهم لبعض.
لنلق نظرة مقتضبة على الإرهاصات الأولى لنشأة هذه التيارات سنكتشف دون عناء أن البداية كانت عند ما ارتأت مجموعة أن الخليفة الرابع كان أحق بالأمر من الذين سبقوه ، وانخرم جيل الخيريين (الصحابة) الذين ناصروه وكانوا من السابقين لهذا الأمر (الإسلام) دون أن يدعوا أن خيارهم كان دينا ،أو بوصية من المشرع ،ومع الزمن واكراهات السياسية ومطالبها ، وضرورة وجود مهماز يحفز ويشحذ عزائم الأنصار تجاوز منتسبو هذا الرأي المطلب السياسي فأصبحوا يكيفونه كمطلب ديني ، آخرون من الجيل الثاني ونتيجة للتطورات الداخلية للدولة الفتية المحاطة بالأعداء الداخلين ارتأت أن الخليفتين الثالث والرابع بدلا وغيرا ، ووضعوا أساسا مثالية تدعوا للإنسان الكامل ، دعوة تلقفتها الدهماء وأصبحت دينا يتعبد به، به سالت انهر من دماء الخيريين بينهم الخليفتين الثالث والرابع،بين هذين التيارين أوجدت السُلط في ما بعد تيارات فكرية بمضامين دينية تتبنى أيدلوجيا الحكم بما يضمن استمرار الحاكم في تسييره الذي لا يتوفر فيه الحد الأدنى من التناغم مع ما كان عليه أمر الأمة ،وبدفاع أنصار الحكام عن ذلك التوجه تشكلت تيارات ناقدة ورافضة لسلوك الدولة ووصل التنافر ذروته عند ما تخندق الأمراء (لمصالح خاصة) وتعصبوا للتيارات الفكرية ،واستعملت الدولة القوة لفرض رأيها ،وأدخلت الإيمانيات في الجدل السياسي لتأجيج مشاعر العامة ،فتوج الصراع بظهور تيار صارت له الغلبة إلى اليوم يرى أصاحبه أنهم لوحدهم على المهجة البيضاء ، وأن مخالفيهم في الغالب خارجين عن الملة لا يجوز أكل ذبيحتهم ،ولا الصلاة خلفهم رفعين شعارات مؤثرة على العواطف وأُدخل الخيرون (الصحابة) في الموضوع تأجيجا للصراع الذي بدأ سياسيا ثم حُول وحُور أيدلوجيا ليصبح دينيا محضا نحن ملزمون بتباع أوامر قادته، والتقييد بنواهيهم نحب من أحبوا ونكره من كرهوا دون أن نسأل لِمَ كرهوا فلانا ؟ ولِمَ أحبوا فلانا والكل يشهد أن لا إله إلا الله ؟ودون النظر في الأدلة التي بنو عليها منهجهم هل هي وحي؟ أم رأي مثل رأي مخالفيهم؟
في عصر العقلانية العلمية هذا الذي نعيش فيه عالة على هامش الحضارة الإنسانية لو امتلكنا الشجاعة الكافية واستطعنا طرح أسئلة جوهرية حول مدى انسجام الطائفية والمذهبية التي نتقاتل من أجلها مع رحابة هذا الدين الذي وسع كل الشعوب ،وتعايش مع كل الملل أسئلة يكون من ضمنها ما معنى السنة؟ هل نقصد بها إتباع سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ؟ لا محالة سنجب كلنا بنعم؟ أوليس من المستحيل أن تكون مسلما مهما كانت فرقتك ما لم تكن متبعا لسنته ؟ لكن إن كان القصد بالسنة هو أتباع أحد المذاهب الأربعة فهذا تخندق ليس مخرجا من السنة دون شعور أو بحسن نية المخالفين من الفرق الأخرى فقط بل أخرج أصحابه ( الصحابة) الذين لم يتبعوا هذه الأنساق ، وإن قلنا إن التشيع هو حب آل بيت المصطفى فهو كسابقه ، كل مسلم محب لهم لكن إن قصدنا به منظومات فكرية خاصة تقتضي التطاول على بعض السابقين من المهاجرين الأخيار وإعادة التاريخ إلى فترة الصراعات السياسية فقد أخرج أصحاب هذا الرأي حتى الخليفة الرابع وأبنائه وأحفاده الطاهرين الذين لم يسبوا مسلما أحرى مهاجرا بل إن أشهر إمام لدى تلك الفرق عبر التاريخ وحتى اليوم، للخليفة الأول المبغوض عندهم ولادتين عليه فكيف يسبون والد إمامهم؟
لنفكر في رحابة ديننا فكلمة “المسلمين” هي التعريف الجامع الذي أمرنا خالقنا بالتسمية به وهي تسمية جامعة لنا عاصمة لنا من الفرقة والتباغض والتنافر، ما يقوله أئمتنا ليس وحيا منزلا ، ولا أمرا مقدسا عن الخطأ وإنما هو رأي له مكانته وأهميته لكن إن دعا لفرقة أو تنافر فهو مردود على صاحبه ،لأنه معارض لنص القرآن الفيصل في أمورنا الداعي إلى الألفة.