من قلب الصحراء الشاسعة حيث يمتد الأفق وتغيب المعالم، وحيث تزحف الكثبان الرملية باتجاه السكك الحديدية الرابطة بين بعض مناطق الشمال الموريتاني، يبدأ سكان مدينة نواذيبو الشاطئية رحلة الألف ميل، عبر أطول قطار في العالم، والتابع للشركة الوطنية للمناجم والصناعة (سنيم) والمخصص لنقل الحديد الخام من مناجم استخراجه في مدينة أزويرات إلى نواذيبو حيث تبدأ إجراءات تصديره إلى الخارج.
وفي الواقع فان الشركة تمتلك عدة قطارات، وعلى السكة الحديدية يتعاقب قطاران بشكل منتظم، أحدهما قادم من نواذيبو للتزود بخامات الحديد من أزويرات، والآخر يوصل شحنات جديدة إلى الميناء الصناعي في نواذيبو لتصديرها عبر الشحن في سفرن تجارية نحو وجهات عالمية.
السفر في هذا القطار يجمع بين المتعة والمعاناة فالرحلة التي تستغرق 12 ساعة على الأقل تتم في ظروف بالغة الصعوبة، عدد قليل من الركاب هم من يحصلون على مقاعد تمنحهم فرصة الاسترخاء قليلا طوال السفر، وتمكنهم من الاستسلام لغفوة قصيرة، أما الباقون فعليهم التكيف مع ظروف أكثر قساوة، لكنها لا تخلو مع ذلك من نكهة تدفع ركاب هذه القاطرة لخوض المغامرة أكثر من مرة.
تفتقد صالات المسافرين للتكييف في فترات تزيد فيها درجة الحرارة على الأربعين، فيما لايجد بعض المسافرين فرصة للجلوس، أما من لا يتوفرون على تكاليف التذكرة فيجدون أنفسهم مرغمين على الركوب في القاطرات الخلفية، حيث تحرك العواصف الرملية خام الحديد الذي يتطاير منثورا في الفضاء ليغطى أجسام هؤلاء ويكسبها لونا أسمر.
تتكدس البضائع، ويتجمع المسافرون في نقاط محددة تعودوا توقف القطار فيها وأصبحت محطات شبه رسمية، وما هي بالمحطات، إذ لاتوجد أبسط مباني أو إشارات تميزها عن غيرها من الصحراء الأخرى، ويحتاج المسافر للمرة الأولى عبر هذا القطار إلى دليل يقوده إلى نقاط التوقف، ثم عليه أن يتلقى إرشادات خاصة حول طريقة الصعود إلى المركبة. تبدو العملية صعبة في وقت يبلغ فيه ازدحام المسافرين أوجه للتسابق إلى أكثر الأماكن راحة في صالات القطار.
يتطلب الحصول على مقعد صغير داخل القطار معركة طويلة غالبا ما تقود إلى مشاجرة أو مشادات كلامية، وتشكل هذه المشاجرات مادة خصبة لأحاديث المسافرين خلال رحلتهم الطويلة.
داخل القطار يعيش المسافرون حياتهم العادية وكأنهم في منازلهم، هذه فرق موسيقية تنعش سهرة في أحد جوانب الصالة، وعلى مسافة غير بعيدة، يتحلق آخرون في جلسة شاي موريتاني تتخللها حكايات من تاريخ رجال مقاومة الاستعمار الفرنسي وانتصارات الأمراء في معارك دامية بين القبائل قبل دخول المستعمر إلى هذه الأرض.
التجوال في صالات الركاب العمومية يمنحك مزيدا من الاطلاع على تفاصيل حياة سكان المنطقة الشمالية، أكثر هؤلاء هم من قبائل البدو الرحل الذين هجروا مناطقهم الأصلية إلى منطقة “تيرس الخصبة”، هربا من الجفاف الذي ضرب قرى موريتانية عديدة وقد استوطنوا هذا الجزء من الصحراء بحثا عن الكلأ للحفاظ على حياة مواشيهم.
وفيما لا تتوفر مرافق صحية في عربة المسافرين، يتوقف القطار مرات عديدة لبعض الوقت حيث ينزل المسافرين لقضاء حاجياتهم وأداء الصلاة، ويتفق الجميع على حيوية القطار بالنسبة للحياة على جانبي سكة الحديد ما بين نواذيبو وازويرات، لكن بعض من اعتادوا امتطاء القطار، يطالب بتحسين ظروف السفر فيه وجعلها “أكثر آدمية”.
ترتبط حياة سكان القرى الواقعة على الطريق بين المدينتين في تفاصيل حياتهم اليومية بحركة القطار، إذ يقوم بنقل الماء والسلع إلى هذه القرى.
و تبلغ المسافة بين ازويرات ونواذيب 650 كيلو متر يقطعها القطار بنحو 18 ساعة وتحتضن ازويرات تحت رمالها القاحلة كنوزا كبيرة من المعادن، أهمها خام الحديد الذي يوجد بكميات كبيرة وبجودة عالية.
وقد دشنت سكة الحديد الرابطة بينة نواذيبو وازويرات عام 1963 بواسطة شركة “ميفرما” الفرنسية التي ورثتها الدولة الوطنية عن الاستعمار ثم صدر قرار حكومي بتأميمها عام 1973.