د/ سيدي بن أحمد فال (دكتوراه دولة في التشريع الإسلامي)
عضو في المجلس الوطني لحزب “تواصل”
الهاتف: 22238871
ما من شك في أن اللحظة التي تشهدها بلادنا وما يطبعها من تجاذبات سياسية وما قد ينجر عن ذلك من عواقب وتداعيات غير مأمونة العقبى؛ تتطلب منا جميعا وقفة وطنية جادة ومخلصة؛ تستلهم روح التضحية والنصح امتثالا لما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم من أن “الدين النصيحة”؛ والأمر هنا يتعلق بالأساس وعلى وجه الاختزال؛ بإشكالية الثورة والمطالبة برحيل النظام؛ وتحديدا: هل لتلك المطالبة قدر من المشروعية أو حظ من الوجاهة ؟
محددات أساسية
وفي هذه المعالجة المتواضعة أقترح على القارئ الكريم وسعيا منا لضمان أكبر قدر ممكن من الموضوعية والتجرد؛ أن نبادر أولا إلى تحديد بعض المنطلقات أو المرتكزات العامة التي تهمنا جميعا كمواطنين قدر لنا الانتماء لهذه الدولة التي تسمى “الجمهورية الإسلامية الموريتانية”.
إن ما أعنيه بتلك المنطلقات أو المحددات الأولية العامة المشار إليها هو ببساطة شديدة ما يلي:-
1- حاجتنا إلى الاستقرار؛ والقطيعة مع الأساليب غير الحضارية من محاولة الاستيلاء على السلطة بالقوة ونحوها.
2- حاجتنا إلى محاربة الفساد والقضاء على كل أنواعه و ممارساته؛ والسعي الجاد نحو تكريس العدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص.
3- ضرورة المحافظة على وحدتنا الوطنية والذب عنها؛ وكذا الحرص على ما يعزز لحمتنا الاجتماعية ويقويها.
4- الدولة الموريتانية هي ملك لجميع مواطنيها؛ وليست حكرا على أحد منهم أو على مجموعة دون الآخرين.
5- الشعب الموريتاني هو بوجه عام من أشد الشعوب الإسلامية تمسكا واعتزازا بدينه.
إننا إذا عدنا لإسقاط تلك المنطلقات أو المحددات الأولية على واقعنا اليوم، وذلك على ضوء قراءتنا لهذا الواقع قراءة تنشد الموضوعية والأمانة العلمية بعيدا عن التحيز أو الميلان لصاح هذا الطرف أو ذاك؛ انسجاما مع المبادئ السامية لديننا الحنيف؛ حيث يقول جل من قائل: ﴿ يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا﴾ ( النساء/ 135) ويقول: ﴿ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما ﴾ (الأحزاب / 70ـ 71)؛ ويقول: ﴿ يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا أعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون﴾ (المائدة / 8)؛ ويقول: ﴿…وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى وبعهد الله أوفوا ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون﴾ (الأنعام / 153)، فإن الأمور تتراءى لنا إذن على النحو التالي:-
1- يعني مطلب الاستقرار وحاجتنا إلى القطيعة مع الأساليب المتخلفة من محاولات الاستيلاء على السلطة بالقوة: أننا معنيون جميعا بالحرص على جعل البلاد تنعم بأكبر قدر ممكن من الاستقرار السياسي؛ ومن ثم فإننا معنيون جميعا بجعل انقلاب السيد محمد بن عبد العزيز وبغض النظر عن مبرراته وملابساته وما أعقبه من انتخابات اعترفنا (على الأقل في حزب “تواصل”) بنتائجها؛ معنيون إذن بالسعي لجعله آخر انقلاب عسكري في موريتانيا، وبالنتيجة فإننا معنيون جميعا وبصفة مبدئية بأن نحرص على أن لا نسعى أو نساعد في تهيئة الفرصة لأية محاولة أخرى للتغيير بالقوة؛ أو خارج الأطر القانونية تحت أي ذريعة حتى ولو كان ذلك باسم الثورة؛ وذلك ما وجدنا إلى الطرق السلمية الاعتيادية في التغيير والإصلاح سبيلا؛ أي ما لم تصل الأمور بنا إلى مرحلة الانسداد أعاذنا الله منها؛ وسلم الجميع من الحور بعد الكور؛ وتلك مرحلة يقتضي الإنصاف أن نعترف بأن البلاد لم تصل بعد إليها؛ وإن كنا لا ننكر وجود بعض أماراتها وإرهاصاتها الأولية القابلة للتطور؛ بقدر ما هي قابلة للتدارك؛ ومن ثم تجنيب البلاد ما لا يرضاه لها كل مواطن غيور على وطنه ناصح لأمته. وسأحاول مزيدا من البيان والتوضيح فيما يتلو.
2- يعني مطلب محاربة الفساد ومحاولة القضاء على كل أنواعه و ممارساته؛ والسعي الجاد نحو تكريس العدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص: أن البلاد وبالرغم مما قطعته في ظل نظام السيد محمد بن عبد العزيز من أشواط طويلة؛ وما أحرزته من نتائج قيمة؛ لاسيما في إطار محاربة الفساد والانحياز لصاح الطبقات الاجتماعية الهشة؛ وإقامة العديد من البنى التحتية التي من شأنها أن تحفز الإنتاج وتدفع بالعجلة الاقتصادية للأمام؛ وغيرها من أمور بادية للعيان؛ يمكن لكل أحد رؤيتها ورؤية نتائجها وآثارها ما لم يكن على بصره غشاوة…؛ إلا أن الفساد الذي ما زال يعشش ويبيض ويفرخ؛ في أجهزتنا الإدارية؛ وما ينجر عن ذلك الفساد الإداري من نتائج وخيمة؛ لدرجة أن من شأنه أن يفرغ العديد من الإصلاحات من محتواها؛ أو حتى لا نبالغ فإن من شأنه أن يقلل كثيرا من نتائجها؛ أقول: إن هذا الفساد المستشري منذ عقود طويلة؛ يفرض علينا جميعا أن نتعاون من أجل الوقوف في وجهه. وذلك سواء كنا موالاة أو معارضة أغلبية حاكمة أو أقلية طامحة للحكم. فلا ينبغي للأغلبية الحاكمة – لاسيما من بيدهم الأمر- أن تنشغل أو تكف عن محاربة الفساد تحت أية ذريعة. كما يتعين على المعارضة أن تتجنب ما يشغلهم عن ذلك أو يربكهم؛ بل ينبغي عليها أن تتعاون معهم وتساعدهم فيه بكشف مواطن الفساد وأوكاره. فلا شك أن ذلك من باب التعاون على البر والتقوى الذي أمرنا الله به. وإنما ينبغي فقط أن يكون ذلك بأسلوب منسجم مع المنهج الإسلامي من حيث النصح والأمانة والصدق والتثبت…؛ بعيدا عن أسلوب الإفراط في المبالغة والتهويل وقلب الحقائق أو تشويهها، فإن مثل تلك السلوكيات أول ما تسيء إلى أصحابها أنفسهم قبل غيرهم؛ فهي تنقص من قدرهم وتقلل من مصداقيتهم؛ وهي منافية للقول السديد الذي أمرنا الله تعالى بقوله ووعدنا عليه بإصلاح الأعمال والغفران. قال الله تعالى: ﴿ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما ﴾ (الأحزاب / 70ـ 71)، و في الصحيح: {إذا قال الرجل هلك الناس فهو أهلكهم}. قال الخطابي: “معناه لا يزال الرجل يعيب الناس ويذكر مساوئهم ويقول فسد الناس وهلكوا ونحو ذلك؛ فإذا فعل ذلك فهو أهلكهم، أي أسوأ حالا منهم بما يلحقه من الإثم في عيبهم والوقيعة فيهم؛ وربما أداه ذلك إلى العجب بنفسه ورؤيته أنه خير منهم والله أعلم”. قلت: وفيه نوع من التشاؤم، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يعجبه الفأل الحسن.
3- إن ما يقتضيه منطلق المحافظة على وحدتنا الوطنية والذب عنها؛ وكذا السعي لتعزيز لحمتنا الاجتماعية وتقويتها؛ والذي هو منطلق مبدئي وجوهري: هو أننا مدعوون جميعا إلى أن نتعامل بطريقة إيجابية فيما يتعلق بما خصنا الله به من تعدد وتنوع في الأعراق والشرائح الاجتماعية؛ وذلك باعتباره نعمة أنعم الله علينا بها لما يشكله لنا من غنى؛ ويتيحه لنا من أبعاد مختلفة وإضافات متنوعة؛ وذلك فيما لو أحسنا استغلال تلك النعمة وتعاملنا معها بتلك النظرة الإيجابية؛ مبتعدين عن كل إثارة للنعرات أو الحساسيات؛ أي كل ما من شأنه أن يزعزع الوحدة أو يضعف اللحمة الاجتماعية؛ وذلك امتثالا لقوله تعالى: ﴿واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا …﴾ الآية (آل عمران/103). وتقتضي الأمانة العلمية بهذه المناسبة أن نثمن عاليا الموقف المسؤول والمنسجم مع مقتضيات ديننا الإسلامي الحنيف ووحدتنا الوطنية؛ ذلك الموقف الذي تعبر عنه الخطابات الأخيرة والموفقة للسيد رئيس المجلس الوطني مسعود بن أبي الخير؛ كما أنني أشاطر السيد بيجل بن حميد رئيس حزب الوئام الرأي تماما فيما سمعته من كلامه عبر التلفاز فيما يتعلق بهذا الموضوع؛ وفي هذا السياق فإنني أخشى على كل من يتعمد الانخراط في دعاية لتغيير النظام أو محاولة إسقاطه أو ترحيله بطريقة غير نظامية (ثورية أو انقلابية أو نحو ذلك)؛ وليس عنده مبرر شرعي واضح يستوجب السعي لتغيير النظام والخروج عليه؛ كأن يرى كفرا بواحا عنده من الله فيه برهان؛ كما في نص الحديث النبوي الشريف؛ وسعى في ذلك الهدف يحشد الناس ويحرضهم؛ متجاوزا للطرق السلمية النظامية المتاحة للتغيير؛ أقول: إنني أخشى على مثل هذا العمل أن يكون من قبيل الفتنة والسعي بالإفساد في الأرض بعد إصلاحها الذي نهانا الله تعالى عنه؛ وذلك لما يترتب على مثل هذا العمل غالبا من تفريق كلمة المسلمين وتهديد أمنهم واستقرارهم لغير ضرورة. على أن إثم مثل هذا العمل قد يختلف من شخص لآخر بحسب المراتب والمقاصد لحديث {إنما الأعمال بالنيات…} المتفق عليه، وحديث عائشة المتفق عليه كذلك والذي في آخره: قالت: قلت: يا رسول الله، كيف يخسف بأولهم وآخرهم، وفيهم أسواقهم ومن ليس منهم؟! قال: {يخسف بأولهم وآخرهم، ثم يبعثون على نياتهم}. وفي أحاديث الفتن:(فتن آخر الزمان وعلامات قرب الساعة) من رواية أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: {…لا يدري القاتل فيما قَتَلَ ولا المقتول فيم قُتِلَ } فقيل : كيف يكون ذلك ؟ قال: { الهرج، القاتل والمقتول في النار} (مسلم/2908). وفيها من رواية أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال : {كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدثنا أن بين يدي الساعة الهرج. قيل: وما الهرج؟ قال: الكذب والقتل. قالوا: أكثر مما نقتل الآن؟ قال: إنه ليس يقتلكم الكفار ولكنه قتل بعضكم بعضا حتى يقتل الرجل جاره ويقتل أخاه ويقتل عمه ويقتل ابن عمه. قالوا: سبحان الله ! ومعنا عقولنا؟ قال: لا؛ إلا أنه ينزع عقول أهل ذاك الزمان حتى يحسب أحدكم أنه على شيء وليس على شيء} (مسند الإمام أحمد/32/409 والألباني في الصحيحة/ح رقم:1682)، نسأل الله العافية والعصمة من الفتن.
4- وأما ما يعنيه كون الدولة الموريتانية ملك لجميع مواطنيها؛ وليست حكرا على أحد منهم أو على مجموعة دون الآخرين؛ فهو: أنه ليس لفرد ولا حتى لمجموعة حق الاستبداد بشؤونها ولا حق الاستئثار بخيراتها؛ بل لكل أحد الحق في الاستفادة والاستمتاع بخيراتها وفق معايير وضوابط لها نفس خصائص القاعدة القانونية من شمولية وعمومية وتجريد، وذلك هو مقتضى العدل والإنصاف والمساواة بين الناس، وهو ما لا تستقيم الأمور وتستقر الدول إلا به. وأما خلاف ذلك من تمييز وإقصاء واستئثار؛ ومهما كانت الذرائع؛ فإنه الفساد بعينه، فهو يفضي إلى أن تكون المناصب وأموال البلد وخيراته دولة بين مجموعات قلة؛ أي في النهاية: “دولة بين الأغنياء” كما حذر من ذلك القرآن الكريم.
نعم؛ تقتضي الموضوعية هنا عموما أن نتفهم هواجس الأغلبية الحاكمة وتحفظاتها؛ وهي تريد أن تباشر تسيير شؤون البلاد خلال الفترة التي هي في النهاية مسؤولة عنها؛ لاسيما في ظل وجود معارضة ينادي جزء منها برحيل النظام متأثرا –حتى لا نقول راكبا- بموجة الربيع العربي، فتلك تحفظات قد يكون لها حظ كبير من الوجاهة؛ وإنما بشرط أن لا تتحول إلى أسلوب نمطي شمولي؛ فتكون حينئذ كلمة حق أريد بها باطل. وفضلا عن ذلك فإن أهل المعارضة ليسوا سواء؛ فحتى المنتسبون منهم للأحزاب الداعية للرحيل ليسوا بالضرورة مجمعين داخل أحزابهم على مثل ذلك الموقف؛ بل إن فيهم من لا تأخذه فيما يرى أنه الحق لومة لائم؛ وهو يتمتع بنظرة موضوعية مستقلة.
5- وأما ما يعنيه ويقتضيه كون الشعب الموريتاني هو بوجه عام من أشد الشعوب الإسلامية تدينا ومن أكثرها تمسكا واعتزازا بدينه -ولا نزكي على الله أحدا-؛ فهو: أنه لا يحق لأحد مهما كان أن يقف في وجه خيارات هذا الشعب المسلم المسالم المعتدل الذي رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا ورسولا. فشعب الجمهورية الإسلامية الموريتانية يريد قطعا دولة إسلامية يطبَّق فيها شرع الله تعالى على عباده وفوق أرضه؛ لا دولة علمانية تُحَكَّم فيها القوانين الوضعية على شرع الله تعالى؛ وعندئذ ومن جانب آخر فإنه لا يحق لأحد مهما كان ولا لحزب ولا لجماعة أن تزايد على أحد في الجمهورية الإسلامية الموريتانية باسم الدين. فكلنا مسلمون؛ وكلنا إسلاميون؛ وكلنا أحزاب إسلامية. والأمر لا يرتبط بأشخاص معنيين؛ بل يتعلق بمبادئ وتعاليم ديننا الإسلامي الحنيف وبموقف كل منا إزاءها. فيبقى لنا فقط أن نستبق الخيرات وأن نتنافس في الإصلاحات؛ ونجتهد في أحسن الطرق الموصلة إليها. وتقتضي الأمانة العلمية هنا أن نقيم عاليا الخطوات الهامة والشجاعة التي قطعت لصالح نصرة دين الله تعالى خلال السنوات الأخيرة. أعني خلال عهد السيد محمد بن عبد العزيز. وذلك بدء من مأثرة طرد سفارة الكيان الصهيوني الغاصب؛ وانتهاء بما يشبه النهضة الثقافية الإسلامية من خلال إذاعة القرآن الكريم التي أصبحت منبرا حرا للعلماء والدعاة يبينون من خلالها دين الله تبيانا؛ وذلك على نهج أسلافهم الشناقطة الأماجد. ولا يمكن أن نغفل في هذا الصدد الإشارة إلى الجهود الهامة التي بذلت لصالح الشباب وكذا الشرائح الاجتماعية الأكثر احتياجا. وإجمالا فإنه لو سارت الإصلاحات على هذا النحو في كافة الأصعدة وتم تطبيق شرع الله في كل نواحي الحياة والوقوف مع مقتضيات العدل والمساواة والإنصاف فإني ضامن لهذا النظام الحاكم مناصرة جل مواطني الجمهورية الإسلامية الموريتانية؛ إن لم يكن كلهم أجمعين. إذ لا أراهم عندئذ يبغون به بدلا. وهذا على كل حال موقفي الشخصي التحليلي والمبدئي؛ وإن كنت لا أراه يحيد عنه إلا معاند؛ أو طامح؛ مصاب بآفة حب الرياسة التي هي أصل الآفات؛ كما قال ابن عاشر:
وأعلم أن أصل ذي الآفات
|
|
حب الرياسة وترك الآتي
|
عودة إلى السؤال الجوهري: هل نحن بحاجة إلى ثورة؟
وما يمكننا أن نصل إليه بخصوص السؤال الجوهري: (هل نحن بحاجة إلى ثورة؟)، هو أنه لو كنا مثلا في بعض فترات الحكم السابقة على هذا العهد و افترضنا جدلا أن ثورة الربيع العربي قد بدأت حينئذ؛ لكان واضحا جليا أننا من أحوج الشعوب إلى ركوب موجتها؛ واستغلال فرصتها؛ هذا إن لم نكن أول الثائرين في مقدمتها… وأما اليوم – وبحسب وجهتي الشخصية التحليلية- فإن أحوج ما نحتاجه -حتى الآن على الأقل- هو أن نتعاون جميعا؛ أي كل في موقعه وحسب دوره؛ على حفظ الأمن والاستقرار والوحدة والوئام؛ والعمل من أجل الإصلاح ونشر العدل والمساواة؛ وترسيخ وتكريس مبادئ السلم الاجتماعي والتناوب السلمي على السلطة. أي أن ما أُنَظًِّّرُ له وأدعو إليه هو إجمالا؛ ثقافة التعاون الإيجابي من أجل الإصلاح الشمولي؛ أو بالأحرى تعاون جاد من قبل كل الأطراف بغرض إحداث ثورة إصلاحية ذاتية استباقية طوعية….وذلك بطبيعة الحال ما يصب في المصلحة العامة للوطن. أي في مصلحة الجميع في نهاية المطاف.
هل تحمل موريتانيا براءة خاصة ضد الثورة؟
ومع هذا فإنني لا أقصد إطلاقا أنه يوجد لدينا في موريتانيا عاصم يعصمنا من الثورة لا يوجد لدى غيرنا؛ أو أن هناك ما يمنحنا حصانة خاصة ضد ثورة الربيع العربي لا توجد لدى غيرنا. وإنما أعنيه فقط هو أن شروط الدعوة للثورة أو لإسقاط النظام غير مكتملة عندنا… وإلا فهي من حيث المبدأ ممكنة الوقوع غير مستحيلة ولا مستبعدة؛ لاسيما مع وجود أطراف تسعى جادة إلى صناعتها. أي تسعى إلى “تثوير” الشعب من خلال محاولة استنساخ بعض السيناريوهات الثورية الخارجية رغم ما ينطوي عليه ذلك من مخاطر ومجازفات؛ وما يحمله من تكلف أو تعسف بحسب اختلاف الظروف والملابسات ومدى اكتمال الشروط والمسببات.
أخطاء قاتلة قد تتسبب في ثورة حقيقية
ومهما يكن فقد يكون للمُرَحِّلة (دعاة الرحيل) ما أرادوا من صناعة الثورة في البلاد؛ وذلك إذا لم يتمكن النظام الحاكم من تحاشي الأخطاء القاتلة التالية؛ ولاسيما إن اجتمعت أو أجتمع أكثرها. والمراد بهذه الأخطاء:-
1 – الاستمرار والتمادي في ما دأب عليه النظام الحاكم؛ أعني ما يشبه الدعم المعنوي والوقوف إلى جانب الظلمة القتلة أمثال باگبو والقذافي والأسد؛ وآخر ما شاهدناه من ذلك؛ فجعلنا نشعر بالحرج الشديد والخجل؛ هو ما يتعلق بمداخلة وزير خارجيتنا أمام أزيد من مائة دولة بخصوص الأزمة السورية بحيث جعل بلادنا تغرد خارج السرب أي مع روسيا وإيران؛ وكأن الأمر يتعلق بحرب بين دولتين؛ وليس بين شعب وسفاحيه؛ الذين يحاول التحرر منهم بأي ثمن. يقول الله جل جلاله في محكم كتابه العزيز: ﴿ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار، وما لكم من دون الله من أولياء، ثم لا تنصرون﴾(هود/113). إن مثل هذه المواقف من شأنها أن تثير الشك حول مدى فهم النظام الحاكم لمغزى التوجهات التي حملتها إلينا ثورة الربيع العربي؛ وهل فعلا استخلص منها العبرة المناسبة؛ شأن بعض الأنظمة التي استوعبت الدرس بسرعة فأخذت تستجيب لمتطلبات ثورة الربيع العربي بطريقة طوعية استباقية؛ مجنبة بذلك بلدانها مخاطر ومتاهات التغيير الثوري القسري؛ وهو السبيل أو الخيار ذاته الذي نطمع أن يظل من نصيب بلادنا؛ حتى تصل من خلاله إلى بر الأمان. ولعل ما يعزز الأمل في ذلك؛ هو أن النظام الحاكم وبالنظر إلى المؤشرات العامة؛ يمكن القول من وجهة نظري الخاصة بأنه لا يزال بصورة إجمالية متمسكا بالخيار المشار إليه؛ خيار المصالحة مع الشعب ومحاولة رد الاعتبار إليه وإنصافه في بعض حقوقه التي ظل محروما منها لعقود طويلة.
2 – السعي التدريجي إلى ما يشبه الحرب بالوكالة ضد الإرهاب؛ مع الاعتراف مبدئيا بالطرق والأساليب الريادية التي طورتها موريتانيا في سبيل التعامل مع الظاهرة؛ حيث فتحت أبواب الحوار ومحاولة الإقناع بالتي هي أحسن…. إلا أنه ومن جانب آخر توجد هواجس بأن تستدرج البلاد لحمل لواء الحرب في المنطقة ضد هذه الظاهرة الكونية؛ مع ما قد يحمله ذلك من مخاطر ومجاهيل.
3 – الاستدراج إلى استعمال القوة المفرطة أو غير المبررة ضد المحتجين أو المتظاهرين مما يجعل المتعاطفين معهم يزدادون تدريجيا…
4 – إحاطة رأس النظام تدريجيا ببطانة من المناصرين غير الناصحين تحجب عنه رؤية الأمور على حقيقتها؛ فهذه من أهم المحذورات التي تعتبر بمثابة الداء القاتل للرؤساء. فالشخص الواحد مهما بلغ جده ونشاطه ليس بوسعه أن يظل مطلعا ومحيطا بكل الأمور في البلاد؛ بل عادة ما يلجأ ولو تدريجيا إلى آخرين ليوزع عليهم مختلف ألأعمال ويكلها إليهم….
5 – الانشغال بالمُرَحِّلَة والطامحين للسلطة عن البناء والإصلاح؛ ومن ثم ترك الفرصة تدريجيا لحديثي العهد بالفساد لنهب الأموال وأنواع الإفساد؛ ومن ثم التشويه التدريجي للصورة المستحسنة التي أكتسبها النظام من خلال انحياز أطروحاته وبرامجه للطبقات الأكثر هشاشة في المجتمع.
خاتمة المطاف: نصائح عامة لتجنب الأسوأ
والخلاصة أن الأسباب أو الشروط الموضوعية التي تسمح لنا بالحديث عن حدوث ثورة عارمة وشيكة في موريتانيا هي غير حاصلة أو هي بالأحرى غير مكتملة ولو أنها قابلة للاكتمال؛ حيث يوجد منها حوالي 30 %؛ وتساعد عليها موجة الربيع العربي لمن أراد أن يركبها. إلا أن ما أميل إليه شخصيا؛ وهو ما تمليه المصلحة العامة للبلاد لمن كانت هي غايته؛ هو صرف الجهود في التعاون على الإصلاح ما وُجِدَ إلى ذلك سبيل؛ وهكذا تُترك الفرصة للناس لاختيار الأصلح؛ وفي ذلك فليتنافس المتنافسون؛ فالبقاء في النهاية للأصلح؛ قال تعالى: ﴿فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض…﴾(الرعد/17).
وحذار أن يظن أحد أني أدعو إلى إحياء مذهب المرجئة وسلوك سبيل الرضوخ والاستكانة للواقع كيفما كان؛ بل إن ما أدعو إليه وأُنَظِّرُ له هو الإصلاح والتغيير إلى الأحسن؛ ولكن بمقتضى السياسة الشرعية التي تنبني على طلب المصلحة؛ وما يتفرع عن ذلك من المقارنة ما بين المصالح والمفاسد وقاعدة ارتكاب أخف الضررين؛ وتقديم دفع المضرة على جلب المصلحة؛ واعتبار المقاصد وترتيبها؛ وأنواع الحاجيات و ودرجاتها بلغة الإمام الشاطبي؛ واعتبار الضرورات الست التي جاءت الشرائع الإلهية بحفظها…؛ وإلا فإنه لو فرضنا -لا قدر الله- أن الأمور ساءت في البلاد إلى أن وصلت إلى درجة اكتمال الدواعي والمبررات التي تدعو لقيام الثورة والدعوة لإسقاط النظام فسوف لن نكون من المتخلفين عن الركب عندئذ؛ بل سنكون من المنظرين لتلك المرحلة؛ وذلك وفق الحتمية التاريخية بلغة بعض الفلاسفة؛ أي ما نسميه نحن المسلمين في مراجع الفكر الإسلامي “سنة الله في خلقه”؛ كما في كتاب “التفسير الإسلامي للتاريخ” للدكتور عماد الدين خليل وغيره؛ قال الله تعالى: ﴿…ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين﴾ (البقرة/249). لكنه قبل وجود الدواعي والمبررات التي من شأنها أن تجعلنا نضطر للذهاب إلى تلك المرحلة المكتنفة بالمخاطر والتي لا يمكنها إلا أن تكون آخر الدواء؛ يتوجب علينا أن نتحلى بالمسؤولية وضبط النفس والابتعاد عن طريق الهوى وتقلب المزاج وركوب الأمواج… فإن كان لا بد من الاستعجال قبل استكمال دواعي الثورة ومبررات الدعوة لإسقاط النظام؛ فلا أقل من الانتظار والاصطبار إلى أن ترتفع نسبة تلك الدواعي والمسببات إلى ما فوق 50% على الأقل. وأما التحرك فيما دون ذلك من النِّسَبِ لتحصيل الثورة بمحاولة تهييج الشارع وإثارة العامة وتحريض الشباب الطيب المتحمس بطبيعته لكل جديد…؛ فإني أخشى أن يكون ذلك من باب التحرك في مجال الفتنة و”الفتنة نائمة لعن الله من أيقظها”؛ قال تعالى: ﴿واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أَن اللَّه شديد العقاب﴾ (الأنفال/ 25).
ومهما يكن فإن ما آمله وأرجوه من الله تعالى هو أن تصل هذه الرسالة العاجلة والنصيحة الخالصة إن شاء الله تعالى؛ إلى قلوب جميع الفرقاء السياسيين قبل أن تصل إلى عقولهم؛ لأن ما خرج من القلب يصل إلى القلب كما قيل؛ فهذه النصيحة المتواضعة وقبل أن نستعمل فيها ما تيسر من المقاربات الشرعية والعقلية؛ فإنها إنما خرجت بدافع الرحمة والشفقة وواجب النصح للبلاد والعباد حكاما كانوا أو محكومين امتثالا لقوله صلى الله عليه وسلم: {الدين النصيحة}؛ قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: {لله و لكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم} (متفق عليه)؛ وأرجو من الله تعالى أن لا يجعل فينا ولا معنا من لا يحبون الناصحين ولا من تأخذهم العزة بالإثم؛ وأن نكون ممن أمر الله تعالى رسوله أن يبشرهم لاجتنابهم عبادة ما سواه ولما مدحهم به من قبولهم الاستماع للقول مع إتباعهم لأحسنه؛ حيث شهد لهم بناء على ذلك بتوفر القوى الإيمانية والعقلية لديهم. قال الله تعالى: ﴿والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها وأنابوا إلى الله لهم البشرى فبشر عبادي الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب﴾. (الزمر/16 – 17)
فلنتق الله جميعا في أنفسنا أولا ثم في البلاد والعباد؛ وليكن شعار كل واحد منا ما حكاه القرآن الكريم عن خطيب الأنبياء سيدنا شعيب عليه السلام: ﴿…إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله علي توكلت وإليه أنيب﴾(هود/88) صدق الله العظيم.