لكن القدر المكتوب في اللوح المحفوظ سبق دعائي بالشفاء وأحلامي بالحضور إلى سرير المرض لأقدم المساعدة…. ذلك أن الله يفعل ما يشاء وهو أعلم بمصالح عباده … ومحمد الذي أحببناه حتى الثمالة لدي شعور عميق وثقة عالية في أن الله أحبه أيضا … الرجل يا إخواني لا يوصف …. فهو نسيم رقيق … روح شفافة … إنسان حقيقي … محمد ولد عبدي آخر مرة التقيت به كان قبل نحو ٩ سنوات … جلسنا في مقهى شعبي في دبي ولقاونا جاء بعد محاولات عديدة وشاقة لضرب موعد …. فذكرياتنا المشتركة سبقت شهرة محمد التي أضاءت دروب الإبداع في بلادنا لسنوات ….
محمد وأنا رفاق في ثانوية لعيون وكنا مع ثلة من الشباب نتخذ من عريش مهجور خارج سور الثانوية مهجعا لنا في الليالي الباردة المظلمة والصائفة المقمرة وأيام العطل … ولكثرة الجلاس والسمار وروعة الأجواء التي خلقناها هناك سميناها جمهورية العريش …. كان من بين الاحباب السمار الدكتور الجليل محمد محمود ولد السييدي أطال الله في عمره والذي أصبح لاحقا أستاذا جامعيا محاضرا ثم وزيرا … وهو في قلوبنا اكبر من كل ذلك … كنت أنا ومحمد محمود نشرف على جريدة يومية نكتبها على أوراق الكراسات المدرسية وندبج أعمدتها وافتتاحياتها بخطنا اليدوي, سميناها “صوت العريش” أو “صوت جمهورية العريش” ونتناول فيها طبعا كل ما هو عبث من أخبار الجمهورية التي ابتدعناها وأخبار لعيون والثانوية وفلسطين…. كنت حينها مولعا بمحاكاة المذيعين الموريتانيين سواء باللغة العربية أو الفرنسية … وكانت كل هذه الحركات تملأ نفس محمد ولد عبدي بالسرور ويضحك بصدق ويساهم في إثراء الجريدة ويقرأ علينا محولاته الإبداعية كل ما كتب منها الجديد…
بعد ذلك جمعنا المشوار من جديد في الثانوية العربية وهي السنوات التي أشرقت فيها إبداعات محمد … وكان يقول لي كلما عرضت عليه بعض محاولاتي الشعرية “أنت مبدع بالفطرة ولكن عليك أن تقرأ كثيرا .. إقرأ الشعر واحفظ منه الكثير ….”!
كان نافذ البصيرة ومخلصا في دراسته جادا في كتاباته وقصائده … تشعر وأنت تستمع إليه أنه يحمل هم الإنسانية في قلبه ولا سيما هم المجتمع الموريتاني والوطن الموريتاني., كانت أحلامه عالية محلقة وكانت طموحاته لا تحد .. .كان يحلم بأن يغير الواقع بالقصيدة الصادقة .. كان قلمه ينزف حزنا على الواقع المرير للإنسان الموريتاني الأسير داخل كهفه الثقافي والاجتماعي والاقتصادي وهو يرزح تحت نير حكم الطغيان والفساد العسكري في الثمانينيات …. واستمر مشواره إلى أن وصل طريقا مسدودا بسبب مضايقات الحساد وإحباطات المحبطين … فكانت الهجرة إلى الإمارات العربية التي تلقفته واحتضنته وعرفت قيمته – إذ عازف الحي لا يطرب. الإمارات كانت له دار غربة ووطنا بديلا ومتنفسا للحياة والإبداع … وكانت موريتانيا هي الخاسر الأكبر بكل تأكيد…
في دبي قبل تسع سنوات كان اللقاء الأخير … ولم ينس محمد وهو يحضنني أن يستعيد ذكريات جمهورية العريش ومحاكاتي للمذيعين وجريدة صوت العريش والدكتور ولد السييدي … كان حميما كما عرفته لم تغيره الأيام ولم يملأ صدره بالخيلاء كما يفعل الكثير من الناجحين وأصحاب الشهرة …
ولم ينس محمد وهو يودعني أن يشبعني وصايا كما كان يفعل قبل سنوات عدة بأن أستمر في مشواري الإعلامي وأن لا أنسى المشوار الأكاديمي وبالأخص أن لا أتخلى عن الشعر والإبداع …
أحسست أن الصديق الحميم الذي عرفته صادقا لم يزدد على البعد إلا قربا وأنه يخاطبني الآن وكأنه شقيقي بالأحرى …
في ما يلي المقطع الذي كنت أحاول إكماله منذ يومين على بعد عهدي بنظم الشعر والمشاعر:
يا من بنورك يهتدي من يخشع
وبظل عطفك يستظل الموجع
وبنائباتك لا يكدر طالب
وببحر جودك لا يغور المنبع
يا مبدع الأكوان منك بكلمة
حرفين “كن” فتكوروا وتجمعوا
يا واهب الأرزاق لو من دودة
في جوف صخر نالها ما ترتع
يا عالم الأشياء ما من ذ رة
لم يحصها اللوح العظيم الأنصع
يا رب أشف محمدا وارفق به
فله برفقك وامتنانك مطمع
يا رب أشف محمدا برجائه
فله الرجا ولك العطاء الأسرع
*******
والآن وقد أنفذ الله مشيئته فقد علمت بيقيني أن دعائي بإذنه تعالي سيكون رحمات أخروية واسعة لمحمد وهو يلتحق بالرفيق الأعلى …فقد أضفت ما يلي:
يا رب إذ سبقت إرادتك الرجا
فارحم حبيبا قد حواه المهجع
يارب طيب قبره واجعل له
نورا تغار له النجوم السطّع
وابعثه صحبة أحمد نور الهدى
يوم اللقا فهو السمي الأروع
وارزق ذويه وصحبه حسن العزا
صبر القلوب وأجرها إذ ودعوا
لا غرو إن فجعوا بفقد محمد
فبفقده حتى الأباعد فجّع
ما أصعب السلوان لولا علمنا
عبث الأسى مهما سقته الأدمع
وبأن خير العبد في فعل القضاء
وإذا قضى عن أمره لا يرجع
يا رب ارحم صديقي الرائع محمد ولد عبدي وارحمني يوم ألحق به
محمد فال ولد بوخوصه
إسلام أباد, ٢٩ دسمبر ٢٠١٤