رحلة الرئيس الجوية من العاصمة نواكشوط إلى عاصمة ولاية اترارزة هي أقصر رحلاته الداخلية السابقة؛ فالولاية السادسة تضم ست مقاطعات، تمتد على مساحة 67800 كلم مربع، وبعدد من السكان يقارب 400 ألف نسمة.
استقبل سهل شمام الخصيب ولد عبد العزيز في أول زيارة له بعد تنصيبه للمأمورية الثانية، فولاية اترارزة تعد أحد المعاقل الرئيسة لشعبيته، إذ أعطته النسبة الأكبر في الانتخابات الرئاسية الماضية، متفوقة بذلك على كل المعاقل التقليدية لمرشحي السلطة خلال السنوات الماضية.
عاصفة اليوم الأول
تداعت اترارزة بجميع مقاطعتها وتجمعاتها لاستقبال الرئيس، أعاد عزيز أهل المنطقة إلى طريق عهده أسلافهم، في الماضي كانوا يتحركون مرتين نحو هذا السهل الخصيب، واحدة للحرث وهم يتّبعون أثر النهر الفائض في رحلة عودته إلى مجاريه، وأخرى يوم يحين وقت الحصاد، ويعرفون النهر أيضا أيام الفيضانات ممدا بالماء، وأوقات التحاريق مرتعا للمواشي.
مازال النهر على عادته مع مجاوريه، فيما أصبحت هنالك رحلة ثالثة، عنوانها الحصاد السياسي لرجل ظل وإلى وقت قريب لا يعير أي اهتمام للزيارات الرسمية ويصفها بمواسم الفساد الكرنفالية، تغير كل شيء وأصبحت طائرته تحط على أكتاف مستقبليه.
أضحى التدافع والفوضى مشهدا ثابتا في اليوم الأول من كل الزيارات الرئاسية، بيد أن فوضى يوم اترارزة الأول سبقها حريق شب ليلاً في سوق المفروشات بالمدينة، تسبب الحريق في خسائر فادحة في الممتلكات بعد عجز آليات الحماية المدنية عن السيطرة عليه بعد أن وصلت متأخرة.
مشهد آخر من مشاهد أيام الزيارات الأُوّل السابقات سرت عدواه إلى اترارزة، تمثل في احتجاجات بعض المستقبلين، ولافتات تناهض سياسة الاستصلاح العقاري في المنطقة، بعد عزم الدولة كراء أو بيع بعض الأراضي لمستثمرين أجانب.
ومرة أخرى يعود مناصرو حركة إيرا غير المرخصة إلى الواجهة إثر توقيف السلطات الأمنية لاثني عشر منهم، اتهمهم الأمن بإثارة الشغب، قبل أن يطلق سراحهم بعد خروج الموكب الرئاسي من المدينة.
الخيمة العزيزية
غدت الخيمة الرئاسية محجا ثابتا لأطر الولايات المزورة، تبدأ الجلسة بحديث الرئيس عن الحال العام للبلد والهدف من الزيارة وشكر الولاية على “حفاوة الاستقبال”، وهو في الغالب يبدو في هذه اللحظات يستعيد درسا حفظه من قديم؛ أسهب عزيز كثيرا في الحديث عن الوحدة الوطنية معلنا تصدي الدولة لكل النعرات القبلية والدعوات المفرقة للشعب، فيما عادت لغة الوعود لتطغى على حديث الرئيس وهو يتعهد بجعل طريق الأمل “طريقاً سريعاً باتجاهين”.
بدا المشهد تحت خيمة اترارزة فوضويا، طغت فيه المطالب الشخصية على المصلحة العامة، وتدخل الرئيس مرات عدة ملوحا بيده، ومسكتا لبعض لمتدخلين، وظل كل متدخل يُمطُّ دقيقتي الوالي، ويتلو ما تيسر من المطالب والمآخذ؛ فيما يعلّق بعض المراقبين من الخارج أنه “في هذه الخيمة حضر الأطر، وغابت اترارزة”.
تدشينات في مسقط رأس بيرام
في اليوم الثاني من الزيارة الرئاسية، قفز اسم مركزجدر المحكن الإداري فجأة إلى عناوين الأخبار، كان هذا المركز إلى عهد قريب لا ذكر له، عدا في نشرات الأحوال الجوية ومقاييس المطر، غير أن ميلاد أبرز مناوئي نظام الرئيس ولد عبد العزيز، زعيم حركة إيرا بيرام ولد الداه بهذه القرية الوادعة، جعل منها إحدى القلاع الأمنية خلال الزيارة.
لم يكن المركز الصحي وتوسعة المحطة الكهربائية أبرز الوافدين على جدر المحكن، برزت أيضا حركة “معا من أجل موريتانيا” غير المعروفة ممهدة الطريق أمام الزيارة بمنشورات تدعو إلى الوحدة الوطنية وتتهم دولة جارة ببث روح الكراهية بين أبناء موريتانيا.
وإن كان جدر المحكن قد حظي بقدر من التدشينات الرئاسية، إلا أن حظ ولاية اترارزة من هذه التدشينات لم يكن كحظ سابقاتها، فأغلب النشاط الرئاسي كان تفقدا لمشاريع قيد الإنشاء أو زيارة لمنشآت قائمة، ومع ذلك لم تمر كل الزيارات كما يشتهي القائمون على المنشآت المزورة، انتقد الرئيس بشدة وضع المركز الصحي في مقاطعة اركيز، ورشحت أنباء من مرافقي الرئيس تقول بامتعاضه الشديد مما شاهد.
خصوصية اترارزة
اختصت ولاية اترارزة من بين كل الولايات السابقة بأنها أقلهن من حيث عدد التدشينات، وإذ ذاك أبت اترارزة إلا أن تتميز بخصيصة أخرى، فقد ابتدع أحدهم دعوة الرئيس إلى الترشح إلى مأمورية ثالثة ورابعة.
لا ولاية من السابقات رغم المطالب الشخصية اهتدت إلى هذا الطلب، وهو على أية حال إن وعد الرئيس جدلا بتحقيقه سيكون تماما كطريق الأمل، وعد باتجاهين، شهوة السلطة والحنث بيمين مغلظة.
وعلى النقيض من هذه الدعوة رفض منتخبو حزب “تواصل” المعارض استقبال الرئيس في دوائرهم الانتخابية مخالفين بذلك ما ذهب إليه زملاؤهم في زيارة رئاسية سابقة لولاية لعصابة.
وفى يوم بلا تدشينات، من بوتلميت تودع ترارزة عزيز، من مطار أرضي عهده بالطائرات، عهد موريتانيا برالي باريس دكار عام 2006؛ فقد كان قبل ذلك مطارا يتسع لأضخم الطائرات هبط فيه الجنرال ديغول عام 1953، وبعد الاستقلال تحامت المطار أو “رگ الطيار” الرمال المتحركة من الغرب، والعمران الأعمى الزاحف من الشرق والشمال، وعما قليل سيصير إلى أرفف الذكريات، إن لم تتداركه يد وطنية مخلصة.