لا أسوق هذه القصة الطريفة إلى درجة ما لأنكت على الحوار، معاذ الله، فالحوار قيمة راسخة في هذا البلد، وإنما أسوقها بغية ترشيد ما تسعى إليه نخب المجتمع السياسي والمدني والمهني المجتمعة هذا الأسبوع في قصر المؤتمرات، والتي تتعاقب على منابر الورشات بمعدل 190 متحدث في اليوم بمختلف اللغات والمشارب والمنطلقات من أجل الإجابة على سؤالين: أيان يوم الحوار، وما موضوع الحوار.
ورغم تنوع الإجابات، فيمكن حصرها حتى الآن في تجاهين: تجاه متريث، وآخر متسرع، يدعو الأول إلى التمهل ومنح فرص للمتخلفين عن الحوار، وتحمل طول الانتظار. ويذهب الآخر إلى الدخول في الحوار، وتحديد رزنامته معتقدا أن لا وقت لانتظار بعد أن استنفذت آجال الإعذار، وتهافتت كل الأعذار. ينطلق الرأي الأول من أن الحوار وسيلة لتجاوز حالة “الجفاء السياسي”، في حين يعتقد أصحاب الرأي الثاني أن الحوار هدف في حد ذاته، وأنه ملف فتح طويلا، وآن له أن يغلق، لتتركز الجهود على تحدي التنمية، ولتعود الحالة السياسية إلى حالتها المعتادة.
لكل من الرأيين جزء من الحقيقة على المستوى النظري، لكن عمليا ما يغيب عن أصحاب الرأي الثاني أنهم متعطشون للحوار ويائسون من إيجاد المحاور، وهم يحددون أجلا لحوار لا محاور فيه، أما أصحاب الرأي الأول فهم طامعون في رجوع المحاور للحوار، لكنهم لا يستطيعون أن يثبوا عمليا الأفق الزمني لذلك الأمل، ومع ذلك يحدون أجلا اعتباطيا دون بيان فرص الرجوع.
ولكي نضفي على الرأيين شيئا من الرشد والعملية، يمكن أن أقترح فكرة مؤداها استغلال هذا الحشد الشعبي حول فكرة الحوار، وبلورته في فكرة تنبع من الشعب وجماعات الضغط والمجتمع المهني وشبكات الثقة الاجتماعية، لتنظم حملة على درجة من التلقائية والعفوية، ويكون شعارها (حاور أخاك)، تتبناها المبادرات والأحزاب والهيئات الإعلامية والجمعيات للمدة أسبوعين، ثم تختتم بمسيرة لاستقبال الحجيج الميامين،… ثم تنتهي بمهرجان خطابي تدبج فيه القصائد والخطب، وتغني فيه المغنيات
نحن يال دارير همنا… وتكول أنك تبغين
نبغو حوار اف بلنا… يجمعنا ويخاوين
ثم يتفرق الناس، وينتظر الساسة ثلاثة أيام، فإن لم تفئ الفئة الممانعة، تنادوا إلى حوارهم، وأقاموا الحجة على من غاب، واتفقوا على ألا يدخلوا معه في حديث بعده. ثم يتحاورون على أمهات المسائل في مدينة ليس فيها أحد من شياطين الجن ولا الأنس، ولا تطالبني بتحديدها، فكل ما أعرفه أنها ليست عاصمتنا، وأن من الناس من لا يرضى أن تخلو مدينته من الشياطين، ولكن ربما يختار المتحاورون مدينة صاحبنا الذي آنس في نفسه ما آنس.