[email protected]
لا أفهم دواعي حساسية بعض إخوتي وأبناء بلدي الموريتانيين تجاه نطق اسم بلادنا موريتانيا بصيغة «موريطانيا» في لهجة بعض إخوتنا المغاربة… وبالمناسبة فليس المغاربة وحدهم هم من ينطقها هكذا، فكذلك يفعل الجزائريون أيضاً، وأحياناً ربما حتى بعض التونسيين، وأنا أعرف شارعاً صغيراً في حارة فطومة بورقيبة بحي باردو الشهير بتونس العاصمة يحمل، إن لم تخني الذاكرة، اسم: «نهج موريطانيا»… ولا فرق طبعاً بين النطقين والتسميتين، لو صفيت النوايا والطوايا… فلسنا نحن من اخترع اسم موريتانيا أو موريطانيا حتى تصبح حقوق ملكيته الفكرية خاصة بنا، واللفظ نفسه أعجمي وليس اسماً يعربياً مما تنتابه أحكام الفصاحة، وتراعى فيه سلامة مخارج الحروف بالمد والإشباع… وللعلم فموريتانيا La Mauretanie اسم تاريخي لدولتين قديمتين بشمال أفريقيا، إحداهما موريتانيا الطنجية بأقصى شمال المغرب وكانت عاصمتها طنجة، والأخرى موريتانيا القيصرية بأقصى شمال الجزائر وكانت عاصمتها بلدة شرشال الحالية… وقد بعث الغازي الاستعماري كزافييه كبولاني هذا الاسم مع مطلع القرن العشرين، مستمداً إياه من تقليد الإرث التاريخي الروماني ليطلقه على بلادنا بتحريف بسيط بإبدال وإحلال الحرف الصائت E بعد الحرف الصامت R، بالحرف الصائت I بعد R. وقد اختار هذا الاسم للتعبير عن كونها أرض سمر مسلمين مغاربيين أيضاً، وكذلك رغبة استعمارية منه في طمس جانب من ذاكرتها الإيثيمولوجية والثقافية، على رغم حساسية الفرنسيين عادة لأسماء الأعلام والأماكن خاصة، وهم المعاندون حتى اليوم في نزاع إطلاق اسم بحر المانش أو القنال الإنجليزي، مع أن الاسمين هما لمسمى واحد.
لا أفهم دواعي حساسية بعض إخوتي وأبناء بلدي الموريتانيين تجاه نطق اسم بلادنا موريتانيا بصيغة «موريطانيا» في لهجة بعض إخوتنا المغاربة… وبالمناسبة فليس المغاربة وحدهم هم من ينطقها هكذا، فكذلك يفعل الجزائريون أيضاً، وأحياناً ربما حتى بعض التونسيين، وأنا أعرف شارعاً صغيراً في حارة فطومة بورقيبة بحي باردو الشهير بتونس العاصمة يحمل، إن لم تخني الذاكرة، اسم: «نهج موريطانيا»… ولا فرق طبعاً بين النطقين والتسميتين، لو صفيت النوايا والطوايا… فلسنا نحن من اخترع اسم موريتانيا أو موريطانيا حتى تصبح حقوق ملكيته الفكرية خاصة بنا، واللفظ نفسه أعجمي وليس اسماً يعربياً مما تنتابه أحكام الفصاحة، وتراعى فيه سلامة مخارج الحروف بالمد والإشباع… وللعلم فموريتانيا La Mauretanie اسم تاريخي لدولتين قديمتين بشمال أفريقيا، إحداهما موريتانيا الطنجية بأقصى شمال المغرب وكانت عاصمتها طنجة، والأخرى موريتانيا القيصرية بأقصى شمال الجزائر وكانت عاصمتها بلدة شرشال الحالية… وقد بعث الغازي الاستعماري كزافييه كبولاني هذا الاسم مع مطلع القرن العشرين، مستمداً إياه من تقليد الإرث التاريخي الروماني ليطلقه على بلادنا بتحريف بسيط بإبدال وإحلال الحرف الصائت E بعد الحرف الصامت R، بالحرف الصائت I بعد R. وقد اختار هذا الاسم للتعبير عن كونها أرض سمر مسلمين مغاربيين أيضاً، وكذلك رغبة استعمارية منه في طمس جانب من ذاكرتها الإيثيمولوجية والثقافية، على رغم حساسية الفرنسيين عادة لأسماء الأعلام والأماكن خاصة، وهم المعاندون حتى اليوم في نزاع إطلاق اسم بحر المانش أو القنال الإنجليزي، مع أن الاسمين هما لمسمى واحد.
ولكن لا مشاحة اليوم في الاسم والحد والرسم، وقد سرت على بلادنا تسمية موريتانيا، وهي تسمية مغاربية على كل حال. وكان اليونان القدامى يسمون أهالي شمال أفريقيا «الموروس» أي السمر، وكذلك كان المسلمون في الأندلس يسمون لدى الأوروبيين بـ«المور»، وهي تسمية قرطاجنية قديمة للأمازيغ، ومنها اشتقت لاحقاً تسمية الموريسكيين، أو الموريسكوس بالقشتالية، أي المسلمين الأندلسيين… بمعنى المغاربة أو السمر… بل إن الإسبان في القرن السادس عشر أطلقوا اسم «مورو» على مسلمي الفلبين، وسعوا لتصفية حسابات حروب «الاستعادة» la Reconquista الأندلسية معهم هم أيضاً في الشرق الأقصى البعيد، وحاولوا إلغاء هويتهم، وتغيير حتى اسم عاصمتهم «أمان الله» ليصبح «مانيلا».
ولست أبداً من دعاة تغيير اسم بلادنا الحالي «موريتانيا»، على رغم وفرة وكثرة أسمائها السابقة، وذلك لأن في هذه التسمية أيضاً جوانب تاريخية، وشهادة من الغازي الكورسيكي الذي احتل بلادنا مع مطلع القرن العشرين، بأنه حين جاءها وجدها «أرض مور»، وهذه حقيقة تاريخية سجلها عدونا دون قصد، والحق ما شهدته به الأعداء.
ولذا أتمنى أن يتسامى بعض شبابنا الموريتانيين ويترفعوا عن الوقوع في حبائل عقدتين نفسيتين معششتين في أذهان بعض منهم، حتى لو كانوا قلة:
عقدة «الأسماء المتغيرة»
– العقدة الأولى، هي عقدة «الأسماء المتغيرة»، بتعبير شاعرنا الكبير أحمد ولد عبد القادر في عنوان روايته الشهيرة، أي عقدة التباس وسيولة وترحال الهوية والتسمية في المخيال، فلا يهم اليوم ما كانت تسمى بلادنا، وليس من اللازم أن يستعاد الحديث عنه كلما ضرب الكوز في الزير، فلم يعد هذا مهماً أبداً الآن، من وجهة نظري الشخصية. وأقل أهمية منه بكثير اجترار سبب تغيير اسمها، فكل بلاد العالم قد تتغير تسمياتها، أو تطلق عليها تسميات أخرى جديدة لأسباب واهية أو لقرائن عارضة. وتسميات البلدان عموماً تواضعية، وأحياناً ما تكون أيضاً اعتباطية. وفي الغالب تأتي من مصادر أجنبية، أو من لغة واصفة خارجية، تأخذ مسافة نظر مناسبة من البلد موضوع التسمية.
معجم البلدان والأعيان
وهنالك دول وقارات بكاملها سميت بأسماء اعتباطية بمحض الصدفة، فالقارة الأميركية كلها بجنوبها وشمالها سميت بهذا الاسم على بحار جوّاب آفاق إيطالي يسمى «أميريغو فيسبوتشي» شاءت المصادفة أن أحد واضعي الخرائط اطلع عرضاً على بعض رسائله عن رحلاته إلى سواحل القارة الجنوبية فنسب أميركا، بطولها وعرضها، إلى القرصان «أميريغو» هذا، شبه النكرة. وبذلك تم تجاهل جميع تسميات الحضارات القديمة التي أقامها الهنود الحمر.. وكذلك لم يطلق عليها حتى اسم كريستوف كولمبس مستكشفها الأوروبي الأول، أو «هيرناندو كورتيز» مخرب حضارتها والمستعمر الأوروبي الحقيقي الأول لشعوبها. ولم تحتفظ أيضاً بتسميتها الأولى في عهد الكشوف وهي «جزر الهند الغربية»، ولا بتسمية «العالم الجديد». وقارة آسيا استمدت هذا الاسم من لغة اليونان القدامى ومعناها جهة «شروق الشمس»! وقارة أستراليا أصل تسميتها من اللغة اللاتينية ويعني القارة «الجنوبية».
وجارتنا الجنوبية سنغال تحمل اسم قبيلة موريتانية هي قبيلة صنهاجة Zenega. وجارتنا الأخرى مالي كانت حتى استقلالها تسمى «السودان الغربي» ولم تغيره وتستعد اسم إمبراطورية شمالها القديمة (مالي) إلا مع الاستقلال، بعدما وجدت -في رواية شعبية شهيرة- أن اسم السودان مسجل في الأمم المتحدة باسم السودان العربي. والمغرب نفسه يسمى في اللغات الأجنبية ماروك وماروكو وماروكوس، وكلها تقريباً اشتقاقات من اسم مراكش. ولفظ المغرب باللغة العربية إشارة إلى جهة غروب الشمس، وليست في التسمية أية خصوصية تربطها ببلاد معينة. وأذكر أن أخاً مصرياً قال لي ذات مرة، في ذروة الزوال في شهر رمضان المبارك، إنه يتمنى لو كان الآن مقيماً في المغرب، حتى يحل وقت الإفطار!
والجزائر كلها سميت على اسم مدينة واحدة منها هي «جزائر بني مزغنة»، ولم تـُـستعد أسماؤها القديمة مثل نوميديا، والمغرب الأوسط. وتونس كذلك سميت على مدينة تونس قرطاج ولم يستعد اسمها العربي القديم إفريقية، هذا فضلاً عن التسميات الفينيقية والرومانية والأمازيغية! وليبيا اسم تاريخي لمعظم أراضي شمال أفريقيا ولم يكن خاصاً بأقاليم طرابلس وبرقة وفزان وحدها. وغانا اسم إمبراطورية ظهرت في بلادنا وفي غرب أفريقيا ولا علاقة لها بدولة غانا الحالية. وساحل العاج كان لها اسم قبل أن يأتي سواحلها التجار الأوروبيون بحثاً عن عاج الفيل! ونيجيريا تنسب إلى نهر النيجر، الذي تحمل اسمه دولة أخرى أيضاً. وإثيوبيا نسميها نحن في العربية الحبشة، وتحمل تسمية «إثيوبيا» وأصلها وصف عنصري من اليونان القدامي، ويعني أرض ذوي «الوجوه المحترقة»، وكانوا يطلقونها على عموم الأراضي الواقعة جنوب مصر!
التسمية في العشرة نزهة
واسم أفريقيا كلها لفظ عربي، وفق أرجح التخريجات، كانت تسمى به أرض تونس الحالية، ولكنه يطلق الآن على عموم القارة من بنزرت إلى رأس الرجاء الصالح. وأوروبا اسم لآلهة أسطورية في المخيال الثقافي المتوسطي الغربي، وله أيضاً أكثر من تخريجة أسطورية في ملحميات جزيرة كريت واليونان القديمة. واليونان نفسها تسمى بلاد الإغريق، وبلاد الهلينستيين، ولكن نسميها نحن في لغتنا العربية «اليونان» على اسم رجل يعتقد أنه كان أول من ترجم إلينا عن لغة الإغريق… الخ.
وقياساً على كل هذه الأمثلة، تكون التسمية في العشرة نزهة، كما يقال في التعبيرات العامية، ولذا ينبغي ألا تكون عندنا نحن أيضاً أية مشكلة في تسمية بلادنا بموريتانيا أو موريطانيا، أو حتى بريطانيا كما يلحنها بعض الإخوة العرب، مزاحاً أو استخفاف ظل. وإبدال التاء طاء عموماً ظاهرة صوتية فونوتيكية دارجة جداً في اللهجات المغاربية. وعندنا نحن مناطق في بلادنا تفعل ذلك ربما بشكل «أفحش» و«أوحش» في نظر الآخرين، حيث تسمى «التمر» بـ«الطمر» و«المختار» تنطقها «المخطار»، مثلاً، لا حصراً!
تجاوز عقدة المغروفوبيا
– والعقدة الثانية التي يتعين علينا تحييدها من أذهاننا تبدو أحدَّ وأعْقد وهي ما يمكن تسميته برُهاب «المغروفوبيا» Marophobie، أي الخوف من المغرب، والتعامل بحساسية مفرطة مع كل تصريح أو قول قد يصدر عن شخص أو حزب مغربي تجاه بلادنا، كما وقع بعد مقال الأخ الصحفي المغربي مؤخراً. وأنا شخصياً حين قرأت مقاله انتقدته في تعليق أخوي أعتبره نقداً ثقافياً صرفاً، حيث رأيت أنه لم يتمكن من الخروج من شرنقة بعض الصور النمطية التي أتى إلى بلادنا وهي مترسخة سلفاً في ذهنه، وقد فوّت عليه ذلك فرصة رؤيتها على حقيقتها، ومتعة استكشاف آخريتها واختلافها عن كل ما يعرف، ومن ثم الاعتراف بممكنات هذه الآخرية دون حاجة إلى مقارنات قيمية أو أحكام مدح أو قدح، قد لا تخلو من معيارية، أو مركزية ذاتية. وللتذكير فقد كتبت يومها تعليقاً على مقاله، مازال حتى الآن منشوراً على صفحتي بتاريخه، ويمكن مراجعته، حيث دونت بالحرف: «قرأت مقال هذا الكاتب المغربي الشقيق.. وفيه كثير من الحقيقة… وكثير أيضاً من الصور النمطية… وأعتقد أن مظاهر الفقر ومفارقات الحياة الكالحة التي يكتشفها فجأة “المستكشفون” العرب في موريتانيا يستطيعون العثور على ما هو أمر وأدهى منها في بلدانهم لو بحثوا قليلاً خارج وسط عواصمهم، وفي أحزمة الظل وأحياء الصفيح هناك… ومشكلة كثير من الرحالة العرب حين يكتبون عن بلد آخر عموماً هي أنهم يظلون يبحثون فيه عن ذواتهم، وعما يعرفون، وليس عن مظاهر الآخر والآخرية الجديدة.. وبهذه الطريقة تتحول كتابة الرحلة العربية إلى نوع من المونولوج الذاتي الواهم، الذي يتصور أنه يتحدث عن آخر، فيما هو يدور في الحقيقة داخل دهاليز ذاته، وفي دوائر أفقه الداخلي الخاص محكم الانغلاق».
ردود متشنجة… غير مبررة
ولكن لفت نظري خلال الأيام الماضية أيضاً كثير من الكتابات الغثة الرثة التي تتحامل بتشنج غير مبرر على ذلك الكاتب المغربي، وقد ساءتني كثيراً تلك الكتابات، مع أنني لا أعرفه شخصياً، كما أن المغرب أيضاً هو البلد المغاربي الوحيد الذي لم أزره في حياتي. والحقيقة أن ما بيننا نحن والمغرب ليس فيه مكان للتحامل ولا للحساسية المفرطة، فنحن شعب واحد في بلدين شقيقين مستقلين ذوي سيادة، كما قال سينغور ذات مرة عن علاقة بلادنا وبلاده. والتعامل مع علاقتنا التاريخية والجغرافية مع جارتنا الشمالية بكل هذه الشدة اللفظية والحدة الخطابية لم يعد مبرراً الآن، إن كان مبرراً خلال سنوات الاستقلال الأولى، وما واكبها حينها من مطالبات مغربية! وبالمناسبة فإن من ادعى أنك جزء منه فقد قرّبك ولم يشتمك، وكثير من البلاد العربية والأفريقية أيام الاستقلال ادعى بعضها جزءاً أو كلاً من بعض آخر، بسبب تداخل التكوينات السكانية، والروايات التاريخية، والوشائج الثقافية، والسرديات السياسية. وقد كانت الدعوى المغربية تجاه موريتانيا ومناطق أخرى في جنوب الجزائر مبنية على قراءة خاصة لتاريخ المغرب الأقصى يتبناها حزب الاستقلال المغربي. وهي قراءة رومانسية طوباوية تاريخية غير واقعية. وفيها أيضاً إخفاق سياسي واضح في إدراك معنى تعريف ومفهوم الدولة الوطنية منذ اتفاقية ويستفاليا سنة 1648 التي أصبحت بموجبها الدولة الوطنية هي الوحدة الوحيدة المعترف بها في النظام العالمي، وحلت بذلك «الدولة- الأمة» محل الأمة الفضفاضة بالمعنيين الحضاري والجغرافي السياسي.
مخطئون.. ولكن معذورون
ولئن كان بعض الإخوة المغاربة في سنوات الاستقلال قد أخطأوا قراءة وتسمية طبيعة العلاقة الخاصة بين بلادهم وبلادنا، فقد يكونون معذورين أيضاً فثمة فعلاً صعوبة بالغة في التمييز بين بلادنا وبين أرض البيظان في جنوب المغرب الممتدة من حوز مراكش وجنوب أكادير وحتى وادي درعة وواد نون. هذا إضافة طبعاً إلى إقليمي الساقية الحمراء ووادي الذهب. وكذلك يصدق نفس الشيء على مناطق أخرى في جنوب الجزائر تتكلم باللهجة الحسانية، مثل ولايات تيندوف وبشار وآدرار، ومناطق في شمال مالي والنيجر ي أقاليم أزواد وآدرار إفوغاس، وآهير. وعلى العموم فهذه مناطق يصعب التمييز بين سكانها عموماً، وشدة التداخل السكاني فيها كانت أيضاً أحد أسباب النزاع الجزائري المغربي المزمن. والأصعب من هذا كله هو التمييز بين سكان هذه الأقاليم وسكان بلادنا، ولذلك كان مشروع إقامة دولة علي عموم المجال البيضاني الحساني حلماً يراود الوالد الرئيس المؤسس المختار ولد داداه، رحمه الله تعالى.
ومع هذا فنحن أيضاً لسنا جزءاً من المغرب، بل نحن شعب تاريخي ذو تاريخ صلب ومراس صعب، ولسنا محل احتواء ولا التواء، ولا نزاع ولا صراع، وليس عندنا مركب نقص تجاه أحد أو بلد. ونحن دولة مستقلة ذات سيادة، وقد اعترف بنا الأشقاء في المغرب في نهاية الستينيات. ومرت على قيام دولتنا الوطنية اليوم ثلاثة وخمسون حولاًً. وتجاذبات تلك المطالبة باتت الآن بالنسبة لنا صفحة من زمن آخر، وقد طويت، وقضية أمة أخرى، وقد خلت وانتهت.
وأكثر من هذا ليخبر الشاهد الغائب بأن ما نقل إلينا من أخبار تلك المطالبة، والاصطفافات الداخلية والخارجية بشأنها، قد وصلنا نحن أبناء هذا الجيل من الموريتانيين، ملفوفاً في رواية المنتصرين فقط، ومن زاوية نظر أحادية تخوينية متحاملة على حزب «النهضة» الموريتاني، وبشكل يتنكر لنضاله الوطني التحرري التاريخي، فقيل لنا ضمن سرديات مغلوطة كثيرة أخرى إنه كان يريد ضم بلادنا إلى المغرب، وهذا غير صحيح. وقيل نفس الشيء أيضاً عن انقلاب 16 مارس 1981 وزعم أن العقيدين محمد ولد عبد القادر والأمير أحمد سالم ولد سيدي، رحمهما الله تعالى، كانا يريدان ضم بلادنا إلى جارتنا الشمالية. وهذا أيضاً هراء وتلفيق وكذب صفيق. وقد تحول المغرب ومطالبه أحياناً لدى بعض نظمنا الموريتانية الفاشلة، خلال العقود الماضية، إلى شماعة ومشجب جاهز تعلق عليه كافة أشكال فشلنا وقلة عملنا في خدمة بلادنا وترسيخ هويتها الوطنية والإقلاع ببنيتها التحتية والتنموية.
وقد استدعِيت «نظرية المؤامرة» أحياناً كثيرة لتفسير أية بادرة أخوية من قبل إخوتنا وجيراننا الشماليين، وتم التحامل الإعلامي عليهم، وكتب حتى اسم بلادهم ذات مرة في جوازات سفرنا ضمن الدول الممنوعة زيارتها، مع أن مئات من طلابنا ومرضانا كانوا يدرسون ويتعالجون حينها هناك، في الغالب دون مقابل، وأيضاً على رغم الموقف الداعم الذي وقفوه معنا في أصعب أيام حرب الصحراء. وهذه وقائع تاريخية وليست سرديات مجازية. وهي حقائق صلبة ترد فيها الأرقام الموثقة على الأحكام المسبقة.
مغاربيون دون عقدة نقص
ولو عدنا مع التاريخ عقوداً أخرى بعد جيل الاستقلال والآباء المؤسسين، الذين خاضوا صراع ونزاع الوجود والحدود والسجال والجدال، وأحياناً التمايز والتنابز، مع الأشقاء الشماليين، سنجد أن ثمة جيلاً موريتانياً آخر أيضاً نظر لعلاقتنا مع المغرب الأقصى نظرة مختلفة. وهذه حقيقة تاريخية قد تثير بعض الحفائظ ولكن علينا التعامل معها بمنطق عصرها، لا بمنطق عصرنا، ونسردها هنا دون عقد، ودون مركبات نقص، ودون عظام، وعلى وجه «التعرف» لا وجه «الاعتراف»، وشتان ما بين الاثنين. فقد كان بعض علماء بلادنا، في مطلع القرن العشرين، يسعون جاهدين في الحجاز وبلاد الحرمين الشريفين لإثبات مغاربية بلادنا، وقيل إن بعضهم سعى لاستصدار إفادات مغربية رسمية وعلمية تؤكد ذلك. ولم يكن دافعهم طبعاً سياسياً عاماً، كما قد يتبادر إلى الذهن، من قبيل الرغبة في الانضمام إلى بلد آخر، وإنما كان السبب في الغالب شخصياً، وهو الحصول على نصيب من أوقاف المغاربة في الحجاز، والمغاربة هنا هم أهل المغارب كافة وليس أهل المغرب الأقصى وحدهم، وخاصة بعدما تحجج بعض الجزائريين المجاورين مدعين أن أهالي شنقيط ليسوا معدودين في عموم المغارب، وبالتالي لا تحق لهم قسمة ولا نصيب في أوقاف المغاربة.
مواقف أخرى متسامية
وقبل هذا الجيل كان كثير من مؤرخي ومؤلفي وإخباريي وكتاب حوليات تاريخنا القديم ينتسبون إلى المغارب في بداية أنظامهم وفي تراجمهم، وتراجم أعيان بلادهم، كأن يقول الواحد منهم مثلاً «قال فلان المغربي» ضمن أوصاف أخرى كثيرة أيضاً مميزة لنسبة أبناء بلادنا كالشنقيطي والمالكي والسوداني والتكروري، كما نجد في بعض مدونات وحوليات المدن التاريخية الشرقية من بلادنا خاصة إشارات إلى نسبة أعلام إلى بلاد المغرب الأقصى، والمقصود منطقة الغرب الموريتاني غالباً، المسماة منطقة «القبلة». ولم تكن هنالك أبداً حساسية في مثل هذه الإشارات والإحالات الثقافية، التي يمكن أن يتأولها اليوم المتأولون ويتمحّل فيها المتمحّلون.
وأقرب إلينا من كل هذا موقف للرئيس المرحوم المختار ولد داداه يرويه في كتاب سيرته الذاتية وذكرياته عن سنوات التأسيس، حيث يثبّت في الكتاب أنه حين ذهب لأول مرة إلى فرنسا للدراسة اختار أن يلبس زياً مغربياً، بعدما ارتأى أن ارتداء الدراعة هناك غير ملائم، وقد ينظر إليه على أن فيه مسحة فلكلورية غير مستساغة، بينما الزي المغربي معتاد في فرنسا بسبب أسبقية وكثرة المهاجرين المغاربة فيها. وقد سافر المختار فعلاً في هذا الزي المغربي. وروى هذه القصة ويمكن التثبت منها في الكتاب. ولم تكن لديه أية حساسية تجاه الأشقاء، ولا مركّب أو عقدة أو متلازمة، من قبيل ما نراه الآن في تعليقات بعض أبناء جيل اليوم، قاصري النظري، وضريري الأفق.
والقصد من كل هذه الاستطرادات، الطويلة وربما المملة، بيان حقيقة عدم تعامل أجدادنا بحساسية مفرطة، كحال بعضنا اليوم، مع مسألة العلاقة مع المغرب الشقيق، ولا مع غيره من المغارب الأخرى أيضاً. كما لم يتعامل قادة المقاومة الوطنية في مطلع القرن الماضي أيضاً بحساسية مع الموقف الأخوي المغربي الداعم للمقاومة الشنقيطية ضد الاستعمار الفرنسي، وقد أرسل ملك المغرب مولاي عبد العزيز، حسب الروايات التاريخية الموثوقة، دعمه وابن عمه الشريف إدريس بن عبدالرحمن إلى الشريف الشيخ ماء العينين، مع 500 بندقية، وقد قاد مع أبناء وتلامذة الشريف الشيخ ماء العينين وغيرهم من قادة المقاومة المحليين، معارك كبيرة ضد المستعمرين الفرنسيين من أشهرها معركة النييملان الخالدة في منطقة تكانت.
وهذا موقف أخوي كريم، ولكنه عادي أيضاً بين شعبين شقيقين، فقد شارك المغاربة كذلك في معارك كثيرة إلى جانب مقاومة الشعب الجزائري طيلة القرن التاسع عشر وحتى بداية القرن العشرين، وما كان لفرنسا أن تفرض أصلاً الحماية على المغرب بعد غزو كبولاني لأرضنا بسبعة أعوام، لولا تداعيات دعم المغرب للمقاومة في بلادنا وفي الجزائر. هذا طبعاً فضلاً عن أسباب أخرى كصراع مولاي عبد العزيز وأخيه مولاي عبد الحفيظ على السلطة في المغرب نفسه.
ردوا.. لكن بذوق ومنطق
والحاصل يا شبابنا النجباء أن التهجم على كاتب لمجرد كونه قد أهدى إلينا بعض عيوب عاصمتنا يبدو اليوم سلوكاً انعزالياً غير مقبول وغير معقول. فلعاصمتنا عيوب، وللناس أعين وألسن. ونحن نستطيع تنظيف وتنظيم عاصمتنا، ولكننا لا نستطيع الحجر على ألسنة الناس، أو الوصاية عليهم وزجر أقلامهم عن الكتابة فيما يرون، حتى لو كتبوه بلغة جارحة، أو غير لبقة، أو تنقصها الكياسة، أو تتسع فيها العبارة ويضيق المعنى، ولكلٍّ من هذا طبعاً أسلوب ملائم في الرد عليه… وردوا عليه إن شئتم… ولكن ردوا بعقل وذوق ومنطق، وعلى الشخص وليس على بلد كامل شقيق. ولا تنسوا أن الرد على كاتب عابر سبيل شيء، والكلام غير الملائم عن بلاد شقيقة، وشعب نحن منه وهو منا، شيء آخر. فهذا خط أحمر وخطأ جسيم لا نرضاه لأنفسنا ولا لشبابنا. وأرجو ألا يلقي عليّ أحد درساً في الغيرة الوطنية، ولو فعل فقد مُنعنا الكيل، وتلك بضاعتنا ردت إلينا. ولستُ ممن يزايد عليَّ مزايد في الوطنية، فما في هذه الجبة والجعبة إلا الوطن، وحب الوطن، وليت أنـَّا بقدر الحب فيه نقتسم. وفي حبه فليتنافس المتنافسون.