بقلم: عبد الصمد ولد أمبارك
تشهد الساحة العربية منذ فترة انعكاسات التحولات الجذرية التي أفرزها الربيع العربي ،باعتباره احد الفصول الساخنة بالأحداث في العالم العربي منذ مطلع هذا العقد ،وماميزه من تجاذبات دامية في جل حلقاتها ،علي الرغم من اختلاف التجارب لكل بلد عربي علي حده ،وإن كان القاسم المشترك جامع مانع لعدة دول حسب طبيعتها وبنيتها السوسيولوجية والأنتربولوجية ،انطلاقا من مقاربة تشاركية متبادلة في تأثير الأحداث نظرا للجغرافيا والتاريخ والمصير المشترك .
القراءة الفلسفية المعمقة للثورات العربية والشهادة الفكرية والسياسية لهذه التحولات المحورية التي غيرت وجه عالمنا العربي ،تدرك بجلاء عكس ما أشار إليه الباحثون في الدراسات السياسية والاجتماعية بالتغيير البعدي للثورات العربية بكونها آثار متوقعة لأزمات سياسية ومجتمعية خانقة ،لحقت بهذه الأنظمة نتيجة واقع اصطدمت به الإرادة الشعبية للجماهير الثائرة ،علي الرغم أن الثورة لاتكون أبدا منتظرة أو متوقعة ،ولا تخضع لمبدأ السببية التاريخية ،بل هي تحول جذري خارج سياق التاريخ والعقل التعليلي وحتى التخطيط الممنهج وفقا لأدق الإستراتجيات .
من النتائج السلبية للتأثير المتبادل داخل القرية الكونية الواحدة ،تجدر الإشارة أنه في مطلع تسعينات القرن الماضي ،عرفت القارة الأوروبية مجموعة من الأحداث المتسارعة تجلت أساسا في رياح التغيير التي اجتاحت المعسكر الشرقي ولدت نماذج متعددة ومتفاوتة في آن واحد أثرت لاحقا علي منظومة الدول النامية بصفة عامة ،وكان من مجمل هذه المعطيات الجديدة انسجام البلدان العربية مع ظاهرة التحديث السياسي الوليد النشأة ،بالإضافة إلي البعد الاقتصادي المتمثل في تأثير المؤسسات المالية الدولية وتكريس الأنظمة الليبرالية مجسدة في الخوصصة واقتصاد السوق وبصفة شمولية أدت هذه النتائج إلي تنازل الدول العالم ثالثية عن ادوارها التقليدية في تأمين ظروف العيش الكريم لكافة المواطنين دونما تمييز .
بين عشية و ضحاها شهد العالم العربي تحول جذري لمختلف الانظمة السياسية إلى التعددية الديمقراطية و الحزبية و صياغة دساتير شكلا و مضمونا لا تراعي خصوصيات هذه البلدان الاجتماعية و الاقتصادية و السياسية ، بل تم استنساخ أنظمة غريبة على الاوضاع العامة التي تجذرت في مختلف البلدان العربية .
في البلدان العربية أظهرت التجربة أن الانظمة القائمة غير قابلة لتأقلم مع الواقع اليومي لهموم المواطن العربي نظرا لاختلاف البنية و عدم قابلية الجسم العربي على التطور و النمو الشمولي لهذه النظريات ، لأنها لم تكن وليدة تطور فكري و لا إنتاج تجارب اجتماعية ذات طابع منهجي، كي تعطي ثمرة خصبة تؤكد علي بعد الاستقرار و الاستمرار في إقامة أنظمة سياسية قابلة للتناوب السلمي على السلطة و تحقيق طموح الشعوب في إقامة شراكة حقيقية في التوزيع العادل للثروة و تحقيق مشاركة سياسية فعلية لكافة الطوائف و المكونات الموضوعية لقيام مجتمع مدني سليم ، خالص لإرادة الشعب ، و نابع من تطلعه في تكريس الحقوق و الحريات الاساسية ، تفضي إلى مؤسسات دستورية تمثل إرادة الشعب باعتباره الغاية و الوسيلة لمرتكزات الديمقراطية التعددية .
إذا كانت الديمقراطية التعددية تستند بشكل أساسي على مبدأ التعددية الحزبية المعبر عنها بتنوع الاحزاب المكلفة بقولبة الرأي العام و امتصاص صراعاته و تأطير اختلافاته ، غير أن الواقع العربي يعطي عكس ذالك ، فلم تستطع الاحزاب الاضطلاع بهذا الدور بالشكل المطلوب و المنوط بالعملية السياسية ، بل شكلت التشكيلات السياسية ادوات نظرية لإضفاء الشرعية في مرحلة أولية قصد التسلط و الهيمنة في فترة لاحقة ، تفتقد إلى أدنى مطلب للمشروعية الدستورية ، و هكذا ولدت الوضعية مجالين متناقضين أفقيا متنافرين عموديا ، مرهون مصيرهما بالانزلاق و التفكك و بالتالي الاندثار نتيجة تلاشي العمق الايديولوجي و نقص التجربة الابدية لثقافة الهيمنة و التسلط التي باءت بالهزيمة امام إرادة الشعوب في البقاء .
امام الوضع القائم بدأت تلوح في الافق منابر جديدة للإصلاح و التغيير البناء كخيار ثالث ، و الهادف إلى معالجة إشكاليات متراكمة ولدها كبت الضمائر الحية و استبداد الحكام و طمس هوية القومية العربية في التعبير عن حقوقها في إزالة الظلم و الفساد الذي ينخر مفاصل الدولة ، عبر آليات السلطة و القرابة و زرع أنماط هيمنة اسرة الحاكم على مقاليد الثروة و منافذ القرار السياسي ، مع استبعاد الحلول المواتية ما دامت تناقض ترسيخ الخط العام ، الشئ الذي ولد سياسات متفاوتة في التمديد و التوريث الفعلي للحكم و السلطة دون مراعاة للمرجعية الشرعية لمصالح الشعوب العربية وإدراك قدرتها على الانتفاضة و الثورة كلما توفرت الفرصة السانحة لإزالة الانظمة الاوليگارشية و استعادة المضمون التاريخي للدور الطلائعي للنخب العربية الشبابية و ما خلدته من أمجاد تحررية ساهمت بشكل أصيل في الانعتاق و توسيع قاعدة البعد التقدمي و تحقيق الارتياح المنشود في تحقيق مصالح الشعوب في التقدم و الازدهار و إقامة التنمية الاقتصادية الشاملة و المستديمة .
لقد حاولت الحكومات العربية تهميش الشباب وتغييبه عن الساحة السياسية ،وجردته من الثقة كما حرمته من حقوقه ،غير انها لم تستطع منعه من التفاعل مع الآخر والخروج عن الحدود الضيقة للذات التواقة للتغيير والطموحة للعيش بكرامة الإنسان مع أبعاد متعددة ،مما يعطي الانطباع بأن الحراك الشبابي العربي انجب ثورة شبابية وليس بالضرورة ثورة عربية لأن ذالك تحايل علي الآفاق المقصودة ،وكان من نتائجها المتعددة تصحيح المصطلحات والمفاهيم وترتيب أوراق البيت العربي حسب الأولويات ،كما أن هذه الثورات والتحولات ستفرض علي الغرب والطرف الآخر أن يعيد حساباته في التعامل مع المنطقة العربية في ألمستقبل ،وبشكل يليق بمكانة العالم العربي ودوره الريادي في الحضارة الإنسانية .
اليوم تشهد الساحة العربية عصر النهضة التي سببها اليأس و الانحطاط و غذتها الاساليب المتمادية لدى العملاء و المستبدين من حكام تجاوزوا التقاعد، فكرسوا التوريث المتجدد منذ ستينات القرن الماضي من جيل إلى جيل و العائلات القائمة هي نفسها ، عابثة بسنة الحياة في التجديد و التغيير ، بل قمع الجميع بشتى الوسائل المادية و المعنوية لتبقى النخب الذهبية خارج حلبة الصراع ، مكرسة تصنيف التناوب علي فئة محدودة ، خدمت المستعمر و أستمر الامتداد بعد رحيله ثم كرست الامتداد الشرعي على الرغم من ضعف حيلتها و عدم قابليتها على البقاء في حيز مترامي الاطراف فاضت فيه هموم الجماهير العربية من المحيط إلى الخليج .
إنطلقت شرارة الثورة من مخيم أگديم إيزيك بعيون الصحراء الغربية و اشتعلت بنار البوعزيزي في سيد بوزيد بتونس الخضراء ، لتحط الرحال في ساحة التحرير بأرض كنانة ، بفعل إرادة ثورة شباب مصر ( مسلمين و مسيحيين ) همهم واحد هو رحيل النظام و لا شيء سوى إسقاط النظام ،مرورا بطرابلس ثم صنعاء وحلب لتكتمل الصورة الحقيقية للتفاعل الإيجابي علي الرغم من الحراك الشبابي الخجول الذي بقي متفرجا من وراء الأسوار في انتظار الرحمة في باقي المنظومة العربية .
لقد تعافى الجيل العربي بعد سنوات الضياع بقوة التصميم و الصمود امام المؤامرات و الدسائس الدنيئة التي عرفتها العقود العجاف ، قضت على المبادرة الوطنية في قيادة ثورة التحرير التي طالما ناشدتها العقول العربية و الضمائر الشريفة ، حيث أجهض المشروع القومي العربي بفعل من سخر الطاقات الحية مقابل البقاء في السلطة مهما كلف الثمن .
اليوم يتطلع الشباب العربي إلى اختزال المسافات للنهوض بالواقع الاليم مقابل ثمن التضحيات الجسام ، لأن القدرة إذا أرادت الخلود للإنسان سخرته لخدمة الجماهير .
نعم إنها ساعة الغضب تحدثت عن نفسها في مصر أم الدنيا ، تكاثفت الجهود رغم جهود البلطجة التي بذلت لإذلال الثورة و إحباط المعنويات بالردع و التنكيل على مرئ و مسمع من جيش مصر العظيم ، و لكن ساعة الحسم دقت في الافق بعزيمة لاتلين و تبقى شاهدة على إرادة شعبية في التخلص من الاستبداد و الديمومة التي قنعت بالتزوير و التحايل طيلة ثلاثة عقود في ظل الطوارئ و المحاكم العسكرية .
ثورة الشباب العربي اوجدها الظلم المتفشي و التعنت القهري الذي أدي إلى انسداد الافق السياسي أمام الحوار البناء لكافة الفرقاء السياسيين ، مما ولد نغمة الانتفاضة لدى شباب الثورة الغاضبين باعتبارهم المحرك الاساسي لقاطرة الانتفاضة الشعبية ، و هنا تطرح عدة أسئلة نفسها عن مستقبل الانظمة العربية التي تدور في نفس الفلك ، نفس المخرج قادم لا محالة مادام القادة صم بكم لا يفقهون ………………….؟؟ بل بعضهم عاجز عن إدراك خلفية الصراع و طبيعة المرحلة .
فالاستجابة لمطالب الشعوب حتمية لا مناص منها ، لا سيما إذا كانت المطالب الاجتماعية تتقدم العرائض التوافقية لكافة القوى الحية لهذه البلدان في ظرفية العولمة الاقتصادية التي تعني الترابط الاقتصادي المتزايد بين دول العالم ، مع ما تمليه ثورة المعلوماتية و وسائل الاتصال الاجتماعي من إنصاف في نقل الاحداث داخل القرية الكونية ، الشئ الذي أدهش الانظمة الاستبدادية في التعتيم على مجريات الامور و استخدام أوتار لم تعد قابلة للتسويق بردع إرادة الشعوب في كسر أغلال القيود و التحرك بإرادة جماعية لصناعة التغيير و خلق المشهد المواتي للانتقال السلس للسلطة السياسية .
فلقد كان لربيع ابراك (Prague) وقعه من مستجدات غيرت مسار الأحداث داخل منظومة دول أوربا الشرقية وشكلت منعطفا تاريخيا للتغيير ،أفضي إلي إعادة بناء مرتكزات إتحاد أوروبي قوي ،أصبح منطقة استقرار سياسي وقوة اقتصادية وعسكرية لها حسابها داخل المجتمع الدولي ،فهل يرسم الربيع العربي ملامح مسار جديد ؟ .
لقد سقط شهداء الياسمين و شهداء الحرية بأرض كنانة وشهداء الشام عربونا لانتفاضة التغيير و ثورة الشعب الغاضب على واقع أليم ضمدت جراحه نشوة للحرية و الانعتاق ، و اتجهت أنظار الجميع بعد الجماهيرية العظمي واليمن نحو قلب دمشق و كافة المحافظات السورية الممهدة لعاصفة لا محالة لن تبقي و لا تذر من أنظمة اقتنعت أن الشعب إذا أراد الحياة فلابد أن يستجيب القدر .