لي مع المرحوم – بإذن الله تعالى – الدكتور جمال ولد الحسن، ذكريات لا تنمحي ..
التقيته أول مرة في رحاب ثانوية روصو وأصبحنا صديقين متلازمين.. في الفصل كنا نجلس على طاولة واحدة .. وفي السكن كان سريرانا متجاورين ..وكنا نتسكع معًا في شوارع الصطارة وانجوربل أيام العطل .. على يديه أخذت دروسي الأولى في (لغن) ومنه سمعت روائع امْحمد ولد أحمد يورة وولد مبارك ولد يمين وولد الكصري.. حبَّب إلىَ الشِّعر رواية وحكاية وأجزم أنْ لو كانت صحبتي لجمال طالت أكثر من الأشهر الثلاثة التي قضيناها معًا لكان لي شأن آخر مع هذا الفن الراقي، بشقّيْهِ الفصيح واللّهَجي، لكن : قدّرَ الله وما شاء فعل..
قطع جمال دراسته في روصو بسبب حمى الملاريا وعاد الى التاكلالت للاستشفاء والنقاهة فانقطع الاتصال بيننا، لمدة ثلاث سنوات ونيف.
وذات مساء، من صيف عام 1975، فوجئت، وأنا في الركيز، ببلاغ إذاعي، عقب النشرة المسائية، يتضمن استدعائي، على جناح السرعة، إلى نواكشوط “لأمر يعنيني” .. وكان “الأمر الذي يعنيني” رحلة إلى الاتحاد السوفيتي اختارت لها الدولة – أيامَ لا وساطة ولا هم يحزنون – أن تكون من نصيب الطلاب الأوائل في المؤسسات الثانوية الأبرز في البلد آنذاك : جمال ولد الحسن عن الثانوية الوطنية و أحمد شريف ولد شيخنا ولد ابُّوه – أنْعِمْ وأَكْرِمْ – عن إعدادية أطار والعبد لله عن ثانوية روصو.. عاد الود الذي لم ينقطع رغم التباعد، وعدنا إلى سابق عهدنا : أنا “تلميدِ ركْبَ” وهو أستاذ لا تكدّره الدلاء ..
في موسكو كنت أول من أسمَعه الكاف :
هذانَ فابَّيتْ افْمسكُ ::: تاكِ وحدِ عكبت انهارْ
عاكبْ دهرِ ذاكْ.. الملكُ ::: لله الواحد القهارْ
كما أسمعني قصيدة عن الصحراء، لا أتذكر إن كانت وليدة اللحظة أم هي من قديم إنتاجه، بدأها بقوله :
أأناديكِ .. كيف ذاكَ النداء ::: أعجزتني أزائكِ الأسماء
وختمها بقوله :
قد التقينا من قبل أن يعرفونا ::: ولنا حين يهزمون لقاء
وكان يقرأ علىَ ،من ذاكرته، من “أيام” طه حسين و”عبقريات” العقاد و”عبرات” المنفلوطي كما لو كان يقرأ في كتاب مفتوح..
أقمنا في موسكو أسبوعا حافلا.. زرنا الساحة الحمراء حيث ضريح لينين .. وزرنا سِيرك موسكو ومتْحفها وباليه البولشوي ومعالم أخرى لا أتذكرها، وكنت، في كل موقف من هذه المواقف، أُعيد اكتشاف جمال المثقف .. جمال الذي يعرف كلَّ شيء عن كلّ شيء ..
وفي القطار الذي قطع بنا المسافة ما بين موسكو وأرتَكْ، على شاطئ البحر الأسود، انعقد صالون أدبي على مدى ثلاثة أيام بلياليها – هي مدة الرحلة على ما أتذكر – ، وكان رواده أساسا من المترجمين الروسيين المرافقين للوفود العربية – وكل الدول العربية تقريبا كانت ممثلة – وهم إما أساتذة لغة عربية أو طلاب دراسات عليا.. وكان كل الحديث، حديث جمال، (.. تطويحًا بآفاق المعاني ::: وقنصًا للشوارد وافتراعا)، كما قال رفيق عمره، ،شيخنا المبجّل الخليل النحوي .. وحدِّثْ ولا حرج عن الانبهار والإعجاب والتقدير..
أمضينا جل إقامتنا في الاتحاد السوفيتي في منتجع صيفي من أجمل بقاع العالم، ضمن وفود من الشباب قدِمت من مختلف أصقاع الدنيا .. كنّا كأننا في مغاني الشِّعب ..ماء رقراق وطبيعة ساحرة ووجوه فاتنة .. وأشهد أن جمال كان طيلة تلك الرحلة – وأحسبه كان كذلك في حياته كلها، ولا أُزكّي على الله أحدا – تقيًا، نقيًا، طاهرًا، عفيفًا.
انتهت الرحلة وذهب كُلٌّ إلى حال سبيله .. ثم منَّ الله باللقاء مجددًا .. كان ذلك في بداية عام 1994 في الرباط حيث أقمتُ قرابة عشرة أشهر، كنّا، خلالها، نلتقي يوميا، إمّا في داره العامرة أو في منزلِي بالرباط، دار والده ووالدِنا، الدكتور محمد المختار ولد ابّاه، أطال الله بقاءه ومتّعه بالصحة والعافية.
وقد فاجأني خبر انتقاله إلى الرفيق الأعلى وأنا أتعالج، في دكار، من انزلاق غضروفي تستحيل معه الحركة، أحرى ركوب السيارة على الطرق الوعرة، فلم أكُ من المشيِّعين ولا من المعزِّين، وتلك كانت مصيبتي الأخرى.
ويشاء الله أن أسجِّل، اليوم، هذه الخاطرة عن جمال من موروني، عاصمة جزر القمر، التي كانت مسْرحًا آخَر لعملٍ خَيِّرٍ آخر من أعماله الخيِّرة، وكلّ أعماله كذلك .. موروني التي أهدتنا رائعة من وروائع جمال الإبداعية :
ذانَ عت انبات ء نصبح= نرفد فالتخمام ء نطرح
عت امام -الهَ ما نصلح-= نقبض عت ء نرفع ليدين
وانروغ السجود امجنّح= وانروغ اتناظير الكرعين
وانبسمل عت ء نستفتح= ء نكًرَ مالك يوم الدين
ء راجِ عند الحي القيوم =نرجع هك الْ لخيام الين
افلمسيد انصل ماموم= داركً فهجيج المامومين
رحمة الله وبركاته عليكَ، جمال، ورضوانه ومغفرته وجنّته التي وُعِدَ المتَّقون.
من موروني – جزر القمر