محلل سياسي قال إنها تعكس شعورا عارما بالغضب “لم تعد وسائل التعبيرالعادية تكفي لتوصيله”
نواكشوط ـ حسن ولد أحمد النويشي
تشهد العاصمة الموريتانية نوكشوط؛ منذ مدة، ظاهرة الكتابات على الجدران، وما تلعبه من دور في الإضرار بالمظهر العام للمدينة، فالعين لم تعد تخطئها لكثرتها وتنوع مطالبها.. ويزداد الطين بلة عندما يلجأ المتضررون لتغطية العبارات المكتوبة بالمزيد من التلطيخ والتشويه.
يعجب المرأ من السرعة التي تكتب بها تلك العبارات أو الشعارات في ليلة واحدة، فكم مرة استيقظ الأهالي صباحا ليفاجأوا بنفس التعليق يتكرر مرارا على جدران المدينة وفي جميع المقاطعات، بنفس الخط ونفس لون الدهان المستخدم.
ومن المعتاد أن تكون الكتابات الجدارية لهوا طفوليا وعبثا صبيانيا يتسلى به الأطفال والمراهقون للتعبير عن عالمهم الخاص من خلال الرسوم والخربشات والعبارات البسيطة، لكنها أخذت بعدا سياسيا جديدا، وأصبحت وسيلة للتعبير عن هموم وقضايا سياسية بالدرجة الأولى تروج بين أوساط الشباب.
ورغم انتشار شبكات التواصل الإجتماعية مثل الفيس بوك والتويتر التي يرتادها الشباب بكثرة لدرجة الإدمان إلا أن الجدار ظل وسيلة للبوح وفضاء تواصليا منفتحا على عامة الناس ولا تحتكره أي جهة أو نخبة معينة ويشترك فيه الجميع كتعبير بصري يشبه إلى حد ما اللافتات الإعلانية.
يذكر الموضوع بمقولة للرئيس السابق معاوية ولد سيدي أحمد الطايع في أحد مهرجاناته “جئتكم وأنتم تكتبون على الحائط”، معبرا عن زمن القمع وأحادية الإعلام، وقد رحل هو نفسه مخلفا على جدران نوكشوط كما هائلا من العبارات المناهضة له.
وعبر المواطن الشيخ ولد محمود عن رأيه في الموضوع قائلا إن الكتابة على الحائط وسيلة مجانية للإعلام تدوم لمدة طويلة ويراها الجميع بدون استثناء “بالإضافة إلى أن قرارا قد صدر بمنع رفع اللافتات في المهرجانات التي يحضرها الرئيس”؛ بحسب تعبيره.
وقال المواطن السالم ولد محمد علي إن الكتابات الجدارية “تدل على سطحية بعض شبابنا الذي يرفع شعارات ثورية ولا يتمتع بعمق في الرؤية ويتبع بطريقة عمياء ما يسمى بالربيع العربي غير مدرك لوضعنا السياسي المغاير وللبنية الهشة للدولة الموريتانية التي تتشكل من أعراق مختلفة”.
الحرية مصانة
وقد عرفت جامعة نواكشوط تاريخا حافلا من الكتابات على جدرانها أضر بشكلها الخارجي، وجعلها إحدى المؤسسات المفضلة لدى الكتاب المتخفين.
حمودي ولد حمادي؛ عميد كلية الآداب والعلوم الإنسانية، قال إن النصوص المقررة من طرف الجامعة تعطي الحق في التعبير وتضبط الأماكن المخصصة له من ملصقات ومهرجانات طلابية مصرح بها، “فحرية التعبير مصانة وليس هناك أي دافع للكتابة على الجدران وتلطيخها، ولا ضرورة لهذه الممارسات التي تنتمي لحقب كبت الحريات حيث كانت التنظيمات السرية تلجأ إلى هذه الوسيلة التي لم تعد تجد مبررات لها، فالمنابر متاحة للإدلاء بالرأي، وما يكتب على الحائط يقال علنا وبالتالي فلا ضرورة إليه”.
ويضيف قائلا إن ما وصفه بتخريب الممتلكات العمومية يتنافى مع المنطق السليم وكل المبادئ والقيم، وللجامعة مجلس تأديبي يعاقب الطلاب المخالفين للقوانين المعمول بها حسب طبيعة العمل المرتكب وهي وسيلة ردع فعالة لأعمال الشغب، وتندرج من الإندار إلى الطرد الذي لا يلجأ إليه إلا في الحالات القصوى، أما ماهو خارج الجامعة فيدخل في نطاق تخصص السلطات ضمن الحفاظ على الممتلكات العامة؛ على حد قوله.
وأكد مصدر أمني أن الكتابات على الجدران تمثل إضرارا بالممتلكات وتندرج في إطار المخالفات التي تعتبر أدنى الجنايات عقوبة، ولا يتعلق الأمر مطلقا بالجانب التعبيري.
وقال المصدر الأمني؛ الذي فضل حجب هويته، إن حق التعبير مصان لكل مواطن، مؤكدا أن فترة العقوبة لا تتجاوز عشرة أيام كحد أقصى في حالة شكوى الأفراد من تضرر ممتلكاتهم، “ولم يحدث أن عوقب من قبل من كتب على جدران مؤسسات حكومية”.
عمل سري
لقد تضاعف بشكل ملاحظ في الآونة الأخيرة عدد الكتابات على الجدران التي تعكس شعارات تتبناها حركة 25 فبراير أو حركة شباب موريتانيا (MJM)، وهي شعارات تبرز مطالب الحركتين اللتين تم اعتقال بعض المنتسبين إليها بعد مظاهرات أتهموا فيها بالإضرار بالممتلكات الخاصة.
ونفى ددّة ولد الشيخ ابراهيم مدون وعضو في حركة 25 فبراير أن تكون الكتابات الجدارية من فعل المنتسبين للحركة، فهي لا تدخل في النهج الذي تتبعه للتعبير عن أهدافها، وأكد أن الوسائل متاحة وفضاءات التواصل كثيرة لا حصر لها مثل المظاهرات واللافتات والمواقع الإلكترونية وشبكات التواصل الإجتماعية، مضيفا أن الكتابات الجدارية تعتبر “عملا غير متمدن ويضر بالممتلكات العامة والخاصة”.
وأشار إلى أنها؛ بالإضافة إلى ذلك، تمثل عملا سريا “ينجز في الظلام، ونحن ضد هذا النهج لإننا حركة ثورية تحترم الدستور والقانون وتعمل في النوروالعلن، وتقود مظاهرات علنية في قلب العاصمة وفي وضح النهار على مرآى من الجميع”، وأضاف أن الكتابات الجدارية التي تبرز شعارات الحركة “من فعل بعض الشباب المندفع والمتحمس الذي يؤمن بقضيتنا ولا ينتمي بالضرورة لحركتنا”؛ بحسب وصفه.
انسداد الأفق
وأكد المحلل السياسي ديدي ولد السالك؛ أستاذ القانون الدولي في جامعة انواكشوط ورئيس المركز المغاربي، أن الكتابات الجدارية تعكس شعورا عارما بالغضب لم تعد وسائل التعبيرالعادية تكفي لتوصيله، سيما أن الكتابات على الجدار متاحة للجميع ويمكنها أن تبلغ رسائلها إلى كافة شرائح المجتمع وهي تلفت الإنتباه ولها تأثير نفسي بالغ بألوانها الصارخة وكبر حجم الخطوط ومغايرتها للمألوف.
وأكد أن اللجوء إلى الكتابة على الجدران يصدر عن الإنسان الغاضب الذي لم يعد الكلام ولا الإعتراض يكفيه، فيلجأ إلى إستخدام العضلات أو السلاح لشفاء غليله، فهي أقصى طاقات التعبير عن الغضب.
وأشار إلى أن الكتابات الجدارية وسيلة تقليدية انتهجتها حركات معارضة في الزمن الماضي مثل حركة الكادحين وكانت تجد مبررات لها في ظل غياب وسائل التعبير وسيطرة الدولة الكاملة على وسائل الإعلام آن ذاك، أما الآن “فلها دلالات أكبر وأعمق”.
وأضاف أن الإنسان في الظروف العادية يمارس التعبير بالوسائل المتوفرة، “واليوم نشهد أن كل وسائل التعبير والإعلام متاحة، منها المقروء والمرئي والمسموع”، مؤكدا أنه في الظروف فوق الإعتيادية “يلجأ إلى وسائل أخرى والسبب في ذلك جملة من العوامل، أولها درجة الإحتقان والغليان التي وصلت إليها الحالة السياسية والإقتصادية والإجتماعية للبلد مصاحبة لانسداد أفق لا تلوح فيه بوادر لحل الأزمة، وهي وضعية متأزمة لم يشهد لها البلد مثيلا، فطغى شعور بالخطر والتهديد من طر ف نظام متهور وأرعن”؛ على حد قوله.
ونبه ولد السالك إلى أن الكتابة على الجدران تعتبر طريقة للبحث عن وسيلة للفت إنتباه الجمهور الذي تنتشر فيه الأمية، بحيث أنه يمكنه أن يطلع على المحتوى من باب الفضول والسؤال عنه، إذ أن الوسائل الأخرى نخبوية ومقتصرة على جمهور مثقف وواع.
أما العامل الأخير؛ يضيف ديدي، فهو أن هذه الوسيلة التي يلجأ إليها بعض الحركات السياسية هي نوع من الإصرار في التعبير عن قضية كبرى غير عادية، وإعلان عن مظالم جاوزت الحد، “والدليل على ذلك هو استمرار الإضرابات والمظاهرات التي باتت تنظم بشكل شبه يومي”.