تشهد الساحة السياسية هذه الأيام إيقاع حراكا سياسيا حادا في شكله وعميقا في مضمونه، يعطي الانطباع بأكثر من دلالة علي وجود ازمة سياسية خانقة في البلد، ولو كانت مفتعلة من قبل اطراف لها مصلحة في زعزعة استقرار النظام السياسي الحالي الذي ولد من رحم ازمة دستورية عرفتها البلاد طيلة السنوات الماضية.
لقد ظل المشهد السياسي الموريتاني تحركه نوايا خفية وفقا لأجندة مبيتة همها الوحيد الوقوف بالبلد علي حافة بركان قابل للانفجار في أية لحظة مهما كانت الدوافع والمسوغات غير الموجودة أصلا، خارج مخيلة قلة من السياسيين المرجفين الذين يتبنون الفتنة والتحريض، بصفتهم المحرك الرئيس لدواليب اللعبة السياسية ولو عن بعد، حتى تكريس نمط وأسلوب ضاع به الزمن وولت عليه الحرف المتهالكة وتقاعست عنه أحاسيس المنظرين والمؤطرين من هذا الجانب أو ذاك.
إن التجاذب القائم حاليا بين المعارضة المردودة علي نفسها ، المطالبة بالرحيل للنظام الشرعي والأغلبية المتقاعسة عن دورها في الدفاع عن النظام الدستوري الشرعي ، يعطي الانطباع بشكل لاغبار عليه عن القصة الكامنة وراء تحركات المعارضة الموريتانية وحماسها الجاد في إيجاد مخرج للأزمة مع ما يتطلبه ذالك من جهد قصد إسقاط معالم الثورات العربية وما خلفه ذالك الهاجس من سلبيات علي واقع البلد ، المغاير من نواحي عدة يأتي في مقدمتها الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية والجغرافية وحتى السلوك والقيم والعادات والتقاليد المتنوعة والمختلفة تماما ، مع ما ولده الربيع العربي من إستلهامات بينة أدركت الشعوب فيما بعد حقيقة وعودها الفارغة بعد ما أنكشف زيف مدبريها وآلت الأمور إلي ما انطوت عليه من عدم استقرار سياسي وفتك وخراب لمقدسات تطلبت منا جميعا بعض الوقت لاستدراك قيامها والمحافظة علي كيان الدولة القائمة بدل الخوض في هدم ما تضافرت عليه الجهود الجماعية لحقب وعقود خلت بسواعد أجيال ما قبل الاستقلال.
فعلي الرغم من القواسم المشتركة والمصالح المتقاطعة هنا وهناك، يظل كل بلد ينفرد بسماته الخاصة التي تعطي الانطباع بوجود معايير مشتركة لأصناف البشرية علي الرغم من اختلاف طرق التنظيم وتنوع المناخ السياسي وضيق المحيط الذي يشكل مصدر إثراء قد يتحكم في توجهات الشرائح المكونة لنسيج الجسم الواحد.
فموريتانيا وعلي الرغم من تنوعها الثقافي واختلاف المشارب الفكرية المتعددة انطلاقا من أطياف المجتمع، إلا أن الخلفية والمرجعية الدينية تبقي رصيدا منيعا لوحدة الشعب والتفاف مكوناته داخل النسق الواحد ، علي الرغم من المحاولات الطائشة التي طالما تغنت بها المعارضة بهدف النيل من مقدسات البلد إلي مأزق مظلم ، قد يتطلب الخروج منه التأني والتفكير المسبق لعواقب قد لاتحمد عقباها علي الجميع ، وفي المقابل قد تدفع الأغلبية ثمن تفرجها علي مجريات الأحداث من خارج السرب ، حتى ولو كان الانطباع القائم كونها غير معنية بمرور القافلة وسط نباح الكلاب وتعدد الأطماع وتنوعها.
إن المرحلة الحالية تفرض على جميع أفراد المجتمع السياسي الموريتاني إحداث تحول ديمقراطي في المشاركة السياسية الذاتية والجماعية ، وذلك من أجل انجاز المهام المصيرية كضمان للأمن والاستقرار والحفاظ على الوحدة الوطنية وتحقيق مستوى مرضي من التنمية.
كما يتحتم على النخبة السياسية الوطنية أن تنحني جانبا الأغراض الشخصية وان تبحث المشكلات الحقيقية التي تعيق التحول الديمقراطي، فبقدر ما ينجح الجميع في التحلي بالمسؤولية وتقديم المصلحة العامة على المصالح الضيقة بقدر ما يرتفع مستوى التفاهم بين الفرقاء السياسيين وتضيق الهوة بينهم وترتسم خريطة سياسية نابعة من واقع البلد وتلبي رغباته في التطلع الكريم والنزيه إلى التقدم والازدهار.
إن القطيعة بين أطراف المعادلة السياسية تعكسها بجلاء النزعة الذاتية الراسخة في البنية السياسية الموريتانية لدرجة تجعلنا نتساءل هل النخبة السياسية الحالية قادرة على تطوير الأداء السياسي من خلال الحوار والتفاهم وفقا لمبادئ الديمقراطية التعددية؟ أم أنها أداة للإقصاء والاحتكار لمجالات عدة، مضيفة بذلك نظرة شمولية غير قابلة للتأقلم مع متطلبات العصر من حراك سياسي واجتماعي نتجت عنه في بعض النماذج نتائج وخيمة ، حملت معها انتفاضة الشارع العربي المطالب بالتغيير والتجديد الذي أثمر ينابيع الربيع العربي، والذي فرض نفسه كمعادلة إقليمية لا مناص منها في وجه غطرسة التحولات المتسارعة بفعل إرادة الشباب القادم من فلك بعيد، والذي أصبح هو الآخر يفرض نفسه كخيار بديل يحمل أكثر من دلالة.
إن الظرفية الحالية لواقع البلد تتطلب تصحيحا وتقويما يتماشى مع ما تمليه مصلحة البلد من تنازلات من هذا الطرف أو ذاك ، قصد الخروج من نفق مترامي الأطراف لنسلك معا طريق السلم والأمن الاجتماعي من خلال مقاربة تشاركية تنطلق من الواقع لتستلهم هموم المواطن وانشغالاته بعيدا عن المحاباة والمغالطة العمياء.
إن الشروع في تطبيق خارطة الطريق المجسدة في نتائج الحوار الوطني تعد في الحقيقة مخرجا تصاعديا نحو تطوير وتصحيح مسارنا الديمقراطي وبطريقة توافقية ولو جزئيا ، باعتبارها الانطلاقة الحقيقية للإصلاحات الدستورية المنشودة من جهة ، وإرادة صادقة من النظام القائم عن حسن نيته قصد إشراك الجميع في عملية المشاركة السياسية الشاملة في البلد.
عندها تكون موريتانيا قد دخلت مرحلة جديدة قوامها الإصلاح والتغيير البناء ونظرة جديدة عمادها محاربة الفساد والمفسدين وتجديد النخبة السياسية ومعالجة ملفات التنمية العالقة لبلد يرزح تحت رحمة الفقر على الرغم من توفر المصادر والإمكانيات الطبيعية والاصطناعية. إن إنجاز التحول الحقيقي والإصلاح المنشود في البلد ، أمر مستبعد في الوقت الحاضر في ظل طبقة سياسية فاسدة ومهيمنة موزعة بين الموالاة والمعارضة حيث سبقت مشاركتهم وبوقع كبير في أنظمة حكمت البلاد والعباد.
هذا المشروع الإصلاحي يتطلب عدة آليات تمر حتما بإشراك الشباب الذي ظل مغيبا عن الساحة السياسية بسبب العراقيل التي وضعتها المجموعات المهيمنة من الحرس القديم في وجه أي حراك سياسي جاد، هادف وبناء، الشيء الذي يفضي بضرورة تقاعد القيادات القديمة موالاة ومعارضة لترك الساحة أمام فاعلين جدد يحملون مشروع التغيير البناء على صفحات من تاريخ موريتانيا الحديثة والذي هو بحاجة إلى دماء جديدة طالما حرمت من تطلعها في المشاركة في عملية البناء الوطني انطلاقا من التناوب السلمي على مقاليد الشأن العام، بعيدا عن لغة الوعد والوعيد الذي تنتهجه المعارضة اليوم وبأساليب مغايرة لمعايير اللعبة الديمقراطية لنظام سياسي قائم بذاته بفعل إرادة وتزكية الشعب الموريتاني باعتباره مصدر الشرعية ومرجع المشروعية لصناديق الاقتراع التي خولت الأغلبية لصالح الرئيس الحالي محمد ولد عبد العزيز ، مقابل برنامج انتخابي أحرز ثقة الشعب في مأمورية شهدت العديد من الانجازات الوارية الأعين والمحطات المهمة من مسلسل من الالتزامات التي يعول عليها الشعب الموريتاني في ظل ظرفية دولية وإقليمية خانقة.
إن المطالبة بالرحيل للنظام مردود عليها بضرورة رحيل المعارضة المتهاوية بعد فشلها الذريع من نيل ثقة الشعب بالإضافة إلى الهزائم المتلاحقة في استنساخ التجارب الأجنبية على واقع بلد محصن أصلا ضد التوجهات العمياء ، فهل يقبل شباب المعارضة السير وراء الجيل القديم من الثوار الجدد ؟ أم أن الغاية تبرر الوسيلة لشعب يرفض الفوضى والهمجية ويتمسك بخيار البدائل المتاحة ؟ فهل تصمد موريتانيا في وجه عاصفة الجوار نظرا لانفتاحها وترامي حدودها الإقليمية ؟