شهدت منطقة الساحل والصحراء في الآونة الأخيرة تحولات متعددة الأوجه، يتداخل فيها الإرهاب والتنظيمات المسلحة مع الصراعات المطلبية (الطوارق)، وتتسبب في الكثير من المشاكل التي تتجاوز انعكاساتها الحدود القطرية لدول المنشأ. ولعل الاعتراف بتسارع وحدة الإشكالات الأمنية والتنموية بهذه المنطقة، والإيمان بترابطية انعكاساتها؛ يؤسس للبحث في جذور هذه الأزمات، بغية استشراف مآلاتها.
وقد شكلت تلك المنطقة عمومًا شريطًا هشًّا في حاجة إلى تحقيق الترابطية بين الأمن والتنمية الحقيقية بالدولة، وإعادة صياغة أولوياتها وفق المقتضيات المحلية في محيط هشٍّ اقتصاديًّا واجتماعيًّا تعذر على الدولة الوطنية فيه تحقيق الاندماج القومي، وتسيير الخلافات، وتلبية المطالب والمظالم الوطنية التي تزداد حدة بعد أي تطور أمني، وهو ما ستتم ملاحظته بجلاء في دولة مالي التي تشكل أنموذجا كاشفا لإشكالات منطقة الساحل والصحراء.
وبدت الحرب الأخيرة وما رافقها من تدخل دولي في شمال مالي انفراجةً كبيرة بحساب النتائج الظرفية التي حققتها للدولة، بعدما فقدت سيادتها على ثلثي أراضيها، وسقط نظامها الديمقراطي، وقامت إمارة جهادية على جانبها الشمالي، مهددةً بالسيطرة على باقي المراكز الجنوبية، بما فيها المدن الكبرى المالية؛ إلا أنه سيكون من المبالغة الاطمئنان على نتائج الحرب ومآلاتها في ظل بقاء الإشكالات الكبرى التي كانت من بين الأسباب الوجيهة لخلق التأزم في الأصل.
وستعمد هذه المعالجة السريعة على تقديم طرحٍ عن المسار التاريخي للأزمة المالية، قبل أن تعرض أهم النتائج المترتبة على الحرب في مالي، سواء على المستوى الداخلي، أو على مستوى العلاقات بين دول المنطقة، وتأثيرات ذلك على التعاطي مع جهود محاربة الإرهاب، على المستوى الإقليمي.
الاستقلال الملغوم
استقلت جمهورية مالي في عهد الرئيس القوي مديبوكيتا في العام 1960، وقد ضمت آنذاك ولايتي كيدال وتنكبتو اللتين تشكلان أكثر من ثلث أراضي البلاد، وقد أحس الطوارق حينها بالخطر الذي يتهددهم، وبدءوا ثورتهم في عام 1961 انطلاقًا من كيدال، ولم تستطع الجمهورية الوليدة أن تتغلب على التخلف والجهل والأمية بسبب الفقر من جهة، وعدم التوازن في التنمية بين المركز (الجنوب) والأطراف في الشمال المالي من جهة أخرى، فلم يقم الحكام الماليون منذ الاستقلال حتى الآن ببناء جسور الثقة والأمل التي تحتاجها دولة متعددة الأعراق والقوميات، ومالت كفة التنمية فيها لصالح العاصمة ومدن الجنوب، مقابل تهميش منتظم للشمال.
وليس من قبيل الصدفة أن تتحول جمهورية مالي، ذلك البلد المترامي الأطراف الواقع في غرب إفريقيا؛ إلى ملاذٍ آمنٍ لعصابات التهريب والجريمة المنظمة والجماعات الإرهابية المتشددة، فالبلاد بتركيبتها الإثنية المعقدة، ومساحتها الشاسعة، وإمكانياتها الاقتصادية المتواضعة؛ مرشحة للوقوع في وحل النزاعات والصراعات المهلكة.
ومما فاقم الأمور وأكسبها خطورة متزايدة الضعف الذي اتسمت به الدولة المركزية المالية، وهشاشة بنيتها الأمنية والعسكرية، حتى أصبحت مالي بدون منازع بؤرة للإرهاب في منطقة الساحل الإفريقي، ولم تتمكن حتى من مجاراة الخطة الأمنية لبعض البلدان المجاورة الأقل منها إمكانيات كالنيجر مثلا، وبالرغم من أن البلاد شهدت نوعًا من الاستقرار السياسي النسبي خلال الفترة ما بين 1992، حيث نظمت أول انتخابات رئاسية حرة وحتى الانقلاب الذي جرى يوم 21 مارس 2012؛ فقد عجزت الحكومات المتعاقبة خلال هذه الفترة عن فرض الأمن في نصف البلاد الشمالي، حيث التواجد الأكبر لإثنية الطوارق، وبعض القبائل العربية، والسونغاي، والفلان، كما أخفقت الدولة في وضع برنامج تنموي حقيقي يخفف من معاناة سكان إقليم أزواد، ويحقق التصالح أمام مطالبهم في العدالة والمساواة التي تطورت في وقت لاحق إلى مطالب انفصالية.
وحتى لا نسقط في جاذبية التاريخ لجذور الأزمة المالية، وسرد أكرونولوجيا الأحداث في الشمال المالي؛ نكتفي بالإشارة إلى أن مالي نجحت مجددًا بدعم من الدول الصديقة في إبرام معاهدة تمنراست الثانية (11 أبريل/نيسان 1992)، وقد حجمت سقف المكاسب الطوارقية إلى مستوى اللا مركزية، ومنح الإقليم نصيبًا من التنمية، إضافة إلى إنشاء مكتب شئون الشمال في باماكو لتفعيل بنود الاتفاق، والعمل على استيعاب وتشغيل أطر الطوارق، وقد كان هذا كافيًا لتندلع خلافات عميقة داخل الجبهة التي وقعت الاتفاق بعد ذلك بقليل، مما قاد مختلف الأطراف لتأسيس تنظيمات وأجنحة عديدة.
التدخل الأجنبي والحل المؤقت
مكنت الحرب على الجماعات المسلحة بمالي من تراجع الجماعات السلفية المسلحة عن احتلال محتمل للمراكز الكبرى المالية، وحققت استعادة الوحدة الترابية لمالي، إلا أنها مع النجاحات الهشة والظرفية تتناسى حقيقة التحديات المتبقية، أو الثابتة على الأصح، فالفعل الإرهابي الذي كان لاحقًا للإشكال السياسي المزمن الناتج عن التجاهل الكامل والتهميش المتعمد للحقائق الميدانية؛ جعل التربة خصبة لأي قادم، وهيأ السكان -على هشاشتهم- للتعويل على أي أحد في تحقيق مطالبهم الفعلية، أو أحلامهم الطوباوية.
وكان النظام المالي مستعدًّا للتخلي عن الشمال لذويه، ومن بعده للإرهابيين. وظل وفق مسار متواصل من التنازل المتواطئ يتخلى عما يعوزه حله، فيدفع الضريبة أكثر، ليس بالتضحية بكرسي، وإنما بوطن تآكلت سيادته وفشلت سياسته في لم أجزائه، واستعادت الميليشيات العسكرية سيطرتها على ديمقراطيته التناوبية، وتحول ثلثاه إلى مرتع للإرهاب، واقتصاد الجريمة بمختلف تجلياته وأنواعه.
وقد كشفت الأزمة المالية بجلاء تجذر الأبعاد الإقليمية، وبنيوية الصراع، وحتى مع النفس الجديد الذي تملك الماليين بعودة الحوزة الترابية والشرعية بعد نجاح إبراهيم أبو بكر كيتا في الانتخابات الرئاسية ؛ فإن التحديات ما زالت ماثلةً أمامه بشكل كبيرٍ جدًّا، ومن أولوياتها: استعادة المصالحة، والتخلص من ترتيبات الحرب الصامتة، وما أثارته وأذكته من شعور بالعنصرية المقيتة، والتهميش المتواصل لفئات عريضة من المواطنين الماليين.
وبعد عملية إيجاد السلطة الشرعية في مالي إثر الانتخابات الرئاسية والدعم الدولي في تحجيم الفعل الإرهابي، وعقلنة المطالب السياسية للأزواديين، تبقى مرحلة البناء والتنمية، الجهاد الأكبر بالنسبة للماليين، ليتملك المواطن دولته، ولتتفرغ الدولة لتسوية الإشكال السياسي بالشمال الذي راكم حوله كل الانعكاسات اللاحقة.
إشكالات ما بعد الحرب
ورغم أن التدخل الفرنسي في مالي غير من موازين القوى وأنهى سيطرة الجماعات المسلحة على شمال البلاد، إلا أن تظل هنالك مجموعة من التداعيات لعل أبرزها :
– توسع النفوذ والصراع بين القوى الإقليمية والدولية في المنطقة، حيث إن ثمة محاولة فرنسية لإعادة بناء هيمنتها السياسية والاقتصادية والأمنية في منطقة الساحل والصحراء انطلاقا من مالي، خاصة أن ثمة صراعا اقتصاديا أمريكيا – فرنسيا حول موارد النفط واليورانيوم بالمنطقة. ففرنسا تعمل على الحد من تمدد النفوذ الأمريكي في مناطق نفوذها التقليدي، والذي أسهم في تآكل استثماراتها، وخسارة شركاتها لأكبر عقود في المنطقة لاستخراج اليورانيوم، بينما يسعى الانتشار الأمريكي الواسع في منطقة الساحل والصحراء، عبر غطاء مكافحة لإرهاب، لتغيير الخارطة الجيوسياسية للمنطقة، بشكل يسمح لواشنطن بالاستحواذ على المخزون الهائل من النفط الإفريقي الخفيف في منطقة غرب إفريقيا، وعلى اليورانيوم الموجود بكميات كبيرة في المنطقة.
وفي المقابل، يشكل إبعاد الولايات المتحدة الأمريكية للصين وفرنسا وبقية الدولة الصاعدة في المنطقة، أحد الخطوات الهامة في اتجاه إعادة صياغة المنطقة برمتها من أجل خدمة مصالح الأمن القومي للولايات المتحدة الأمريكية، الذي يعتبر كل مناطق العالم مجالا حيويًّا لمصالحه، ولن يكون استحداث إطار جديد بين دول الساحل والصحراء بقادر -رغم طموحاته المعلنة من خلال قمة نواكشوط الأخيرة ( فبراير 2014) – على تأسيس آلية للتغلب على معضلة الإرهاب في الساحل ما لم تجد ليبيا مخرجًا من واقعها الذي تترنح فيه، وتجد تلك الدول دعمًا قويًّا من الجهات الغربية، وهي مفارقة ومأزق ما زال عصيًّا على الحل. وبالإضافة إلى ذلك ، فإن ثمة تدخلات إقليمية سواء من قبل دول وسط أفريقيا أو المغرب العربي تستغل أطراف مسلحة في شمال مالي، بما يجعل الاستقرار هشا بعد التدخل الأجنبي.
– تجذر إشكالات الدولة في مالي، حيث إن ثمة استمرارا للأزمة الإنسانية بتشريد مئات الآلاف من اللاجئين، إضافة إلى الإبقاء بحدود الإشكالات الكبرى في أبعادها السياسية المتعددة للقضية الأزوادية، وإعادة إنتاج إشكالية التعايش بين المكونات الشعبية. كما أن ثمة ترابطا وثيقا بين التنمية الاقتصادية والتسوية السياسية في مالي، وما لم يتحقق ذلك فقد تذهب جهود ما بعد الحرب في مالي في اتجاه عدم الاستقرار مرة أخرى.
– إشكالات الإرهاب العابر للحدود والمتمدد في الساحل والصحراء، إذ إن التدخل الأجنبي في شمال مالي كشف أنه من الصعب الاعتماد على المواجهة القطرية لخطر الإرهاب، كما لا يمكن المجازفة بالاعتراف بزواله، خاصة مع قدرة الجماعات المسلحة على الكمون والعودة مرة أخرى. فرغم تباين الرؤية والمنطلقات والاستراتيجيات بين جماعات التوحيد والجهاد في غرب افريقيا، وأنصار الدين والقاعدة في بلاد المغرب الاسلامى إلا إننا لا نستطيع القول باجتثاثهم مطلقا وليس أمامنا من خيار إلا الركون إلى فرضية إنهم إما ذهبوا إلى ليبيا أو سوريا أو هم في مرحلة “بيات شتوي” تكتيكي واستراتيجي معا، مع الاعتراف أن التدخل الفرنسي نجح في حصرهم في جبال ايفوغاس، إضافة إلى أن المقاربة الموريتانية في محاربة الإرهاب وغلق حدودها قلصت من قدرتهم على الحركة فى اتجاه الصحراء، ومنعهم من القدرة على تجنيد عاصر جديدة الشباب.
بيد أن ثمة محفزات إقليمية قد تساعد تلك الجماعات المسلحة على الظهور مرة أخرى، حيث إن ثمة مؤشرات على تنامي عناصر القاعدة في جنوب ليبيا في محاولة لضرب المصالح الفرنسية في النيجر، خاصة مناجم اليورانيوم” بارليت” في شمال النيجر، أضف إلى ذلك، استمرار فضاء الساحل الأفريقي كمرتع لاقتصاد الجريمة تنشط فيه عصابات المخدرات وتجارة الأسلحة، بما يمثل قاعدة اقتصادية تمكن الجماعات المسلحة من البزوغ مجددا.
ومن هنا سيكون من الوجيه التساؤل عن حقيقة المكاسب التي تحققت وحجم المصاعب المنتظرة في الدولة المالية بعد التدخل الأجنبي لطرد الجماعات المسلحة ، فهل بذلت كل هذه الجهود والفاتورة السياسية والسيادية والاقتصادية والإنسانية لمجرد ضمان العودة إلى المربع الأول؟ أم أن الوضع المالي كان يتطلب علاجًا بالصدمة لتنقية الأرضية السياسية للانطلاق، يتم فيه التخلص من الخطر الإرهابي، والتفرغ لمعالجة الإشكالات الوطنية السياسية، وتداعيات التدخل الأجنبي.
وقد شكلت تلك المنطقة عمومًا شريطًا هشًّا في حاجة إلى تحقيق الترابطية بين الأمن والتنمية الحقيقية بالدولة، وإعادة صياغة أولوياتها وفق المقتضيات المحلية في محيط هشٍّ اقتصاديًّا واجتماعيًّا تعذر على الدولة الوطنية فيه تحقيق الاندماج القومي، وتسيير الخلافات، وتلبية المطالب والمظالم الوطنية التي تزداد حدة بعد أي تطور أمني، وهو ما ستتم ملاحظته بجلاء في دولة مالي التي تشكل أنموذجا كاشفا لإشكالات منطقة الساحل والصحراء.
وبدت الحرب الأخيرة وما رافقها من تدخل دولي في شمال مالي انفراجةً كبيرة بحساب النتائج الظرفية التي حققتها للدولة، بعدما فقدت سيادتها على ثلثي أراضيها، وسقط نظامها الديمقراطي، وقامت إمارة جهادية على جانبها الشمالي، مهددةً بالسيطرة على باقي المراكز الجنوبية، بما فيها المدن الكبرى المالية؛ إلا أنه سيكون من المبالغة الاطمئنان على نتائج الحرب ومآلاتها في ظل بقاء الإشكالات الكبرى التي كانت من بين الأسباب الوجيهة لخلق التأزم في الأصل.
وستعمد هذه المعالجة السريعة على تقديم طرحٍ عن المسار التاريخي للأزمة المالية، قبل أن تعرض أهم النتائج المترتبة على الحرب في مالي، سواء على المستوى الداخلي، أو على مستوى العلاقات بين دول المنطقة، وتأثيرات ذلك على التعاطي مع جهود محاربة الإرهاب، على المستوى الإقليمي.
الاستقلال الملغوم
استقلت جمهورية مالي في عهد الرئيس القوي مديبوكيتا في العام 1960، وقد ضمت آنذاك ولايتي كيدال وتنكبتو اللتين تشكلان أكثر من ثلث أراضي البلاد، وقد أحس الطوارق حينها بالخطر الذي يتهددهم، وبدءوا ثورتهم في عام 1961 انطلاقًا من كيدال، ولم تستطع الجمهورية الوليدة أن تتغلب على التخلف والجهل والأمية بسبب الفقر من جهة، وعدم التوازن في التنمية بين المركز (الجنوب) والأطراف في الشمال المالي من جهة أخرى، فلم يقم الحكام الماليون منذ الاستقلال حتى الآن ببناء جسور الثقة والأمل التي تحتاجها دولة متعددة الأعراق والقوميات، ومالت كفة التنمية فيها لصالح العاصمة ومدن الجنوب، مقابل تهميش منتظم للشمال.
وليس من قبيل الصدفة أن تتحول جمهورية مالي، ذلك البلد المترامي الأطراف الواقع في غرب إفريقيا؛ إلى ملاذٍ آمنٍ لعصابات التهريب والجريمة المنظمة والجماعات الإرهابية المتشددة، فالبلاد بتركيبتها الإثنية المعقدة، ومساحتها الشاسعة، وإمكانياتها الاقتصادية المتواضعة؛ مرشحة للوقوع في وحل النزاعات والصراعات المهلكة.
ومما فاقم الأمور وأكسبها خطورة متزايدة الضعف الذي اتسمت به الدولة المركزية المالية، وهشاشة بنيتها الأمنية والعسكرية، حتى أصبحت مالي بدون منازع بؤرة للإرهاب في منطقة الساحل الإفريقي، ولم تتمكن حتى من مجاراة الخطة الأمنية لبعض البلدان المجاورة الأقل منها إمكانيات كالنيجر مثلا، وبالرغم من أن البلاد شهدت نوعًا من الاستقرار السياسي النسبي خلال الفترة ما بين 1992، حيث نظمت أول انتخابات رئاسية حرة وحتى الانقلاب الذي جرى يوم 21 مارس 2012؛ فقد عجزت الحكومات المتعاقبة خلال هذه الفترة عن فرض الأمن في نصف البلاد الشمالي، حيث التواجد الأكبر لإثنية الطوارق، وبعض القبائل العربية، والسونغاي، والفلان، كما أخفقت الدولة في وضع برنامج تنموي حقيقي يخفف من معاناة سكان إقليم أزواد، ويحقق التصالح أمام مطالبهم في العدالة والمساواة التي تطورت في وقت لاحق إلى مطالب انفصالية.
وحتى لا نسقط في جاذبية التاريخ لجذور الأزمة المالية، وسرد أكرونولوجيا الأحداث في الشمال المالي؛ نكتفي بالإشارة إلى أن مالي نجحت مجددًا بدعم من الدول الصديقة في إبرام معاهدة تمنراست الثانية (11 أبريل/نيسان 1992)، وقد حجمت سقف المكاسب الطوارقية إلى مستوى اللا مركزية، ومنح الإقليم نصيبًا من التنمية، إضافة إلى إنشاء مكتب شئون الشمال في باماكو لتفعيل بنود الاتفاق، والعمل على استيعاب وتشغيل أطر الطوارق، وقد كان هذا كافيًا لتندلع خلافات عميقة داخل الجبهة التي وقعت الاتفاق بعد ذلك بقليل، مما قاد مختلف الأطراف لتأسيس تنظيمات وأجنحة عديدة.
التدخل الأجنبي والحل المؤقت
مكنت الحرب على الجماعات المسلحة بمالي من تراجع الجماعات السلفية المسلحة عن احتلال محتمل للمراكز الكبرى المالية، وحققت استعادة الوحدة الترابية لمالي، إلا أنها مع النجاحات الهشة والظرفية تتناسى حقيقة التحديات المتبقية، أو الثابتة على الأصح، فالفعل الإرهابي الذي كان لاحقًا للإشكال السياسي المزمن الناتج عن التجاهل الكامل والتهميش المتعمد للحقائق الميدانية؛ جعل التربة خصبة لأي قادم، وهيأ السكان -على هشاشتهم- للتعويل على أي أحد في تحقيق مطالبهم الفعلية، أو أحلامهم الطوباوية.
وكان النظام المالي مستعدًّا للتخلي عن الشمال لذويه، ومن بعده للإرهابيين. وظل وفق مسار متواصل من التنازل المتواطئ يتخلى عما يعوزه حله، فيدفع الضريبة أكثر، ليس بالتضحية بكرسي، وإنما بوطن تآكلت سيادته وفشلت سياسته في لم أجزائه، واستعادت الميليشيات العسكرية سيطرتها على ديمقراطيته التناوبية، وتحول ثلثاه إلى مرتع للإرهاب، واقتصاد الجريمة بمختلف تجلياته وأنواعه.
وقد كشفت الأزمة المالية بجلاء تجذر الأبعاد الإقليمية، وبنيوية الصراع، وحتى مع النفس الجديد الذي تملك الماليين بعودة الحوزة الترابية والشرعية بعد نجاح إبراهيم أبو بكر كيتا في الانتخابات الرئاسية ؛ فإن التحديات ما زالت ماثلةً أمامه بشكل كبيرٍ جدًّا، ومن أولوياتها: استعادة المصالحة، والتخلص من ترتيبات الحرب الصامتة، وما أثارته وأذكته من شعور بالعنصرية المقيتة، والتهميش المتواصل لفئات عريضة من المواطنين الماليين.
وبعد عملية إيجاد السلطة الشرعية في مالي إثر الانتخابات الرئاسية والدعم الدولي في تحجيم الفعل الإرهابي، وعقلنة المطالب السياسية للأزواديين، تبقى مرحلة البناء والتنمية، الجهاد الأكبر بالنسبة للماليين، ليتملك المواطن دولته، ولتتفرغ الدولة لتسوية الإشكال السياسي بالشمال الذي راكم حوله كل الانعكاسات اللاحقة.
إشكالات ما بعد الحرب
ورغم أن التدخل الفرنسي في مالي غير من موازين القوى وأنهى سيطرة الجماعات المسلحة على شمال البلاد، إلا أن تظل هنالك مجموعة من التداعيات لعل أبرزها :
– توسع النفوذ والصراع بين القوى الإقليمية والدولية في المنطقة، حيث إن ثمة محاولة فرنسية لإعادة بناء هيمنتها السياسية والاقتصادية والأمنية في منطقة الساحل والصحراء انطلاقا من مالي، خاصة أن ثمة صراعا اقتصاديا أمريكيا – فرنسيا حول موارد النفط واليورانيوم بالمنطقة. ففرنسا تعمل على الحد من تمدد النفوذ الأمريكي في مناطق نفوذها التقليدي، والذي أسهم في تآكل استثماراتها، وخسارة شركاتها لأكبر عقود في المنطقة لاستخراج اليورانيوم، بينما يسعى الانتشار الأمريكي الواسع في منطقة الساحل والصحراء، عبر غطاء مكافحة لإرهاب، لتغيير الخارطة الجيوسياسية للمنطقة، بشكل يسمح لواشنطن بالاستحواذ على المخزون الهائل من النفط الإفريقي الخفيف في منطقة غرب إفريقيا، وعلى اليورانيوم الموجود بكميات كبيرة في المنطقة.
وفي المقابل، يشكل إبعاد الولايات المتحدة الأمريكية للصين وفرنسا وبقية الدولة الصاعدة في المنطقة، أحد الخطوات الهامة في اتجاه إعادة صياغة المنطقة برمتها من أجل خدمة مصالح الأمن القومي للولايات المتحدة الأمريكية، الذي يعتبر كل مناطق العالم مجالا حيويًّا لمصالحه، ولن يكون استحداث إطار جديد بين دول الساحل والصحراء بقادر -رغم طموحاته المعلنة من خلال قمة نواكشوط الأخيرة ( فبراير 2014) – على تأسيس آلية للتغلب على معضلة الإرهاب في الساحل ما لم تجد ليبيا مخرجًا من واقعها الذي تترنح فيه، وتجد تلك الدول دعمًا قويًّا من الجهات الغربية، وهي مفارقة ومأزق ما زال عصيًّا على الحل. وبالإضافة إلى ذلك ، فإن ثمة تدخلات إقليمية سواء من قبل دول وسط أفريقيا أو المغرب العربي تستغل أطراف مسلحة في شمال مالي، بما يجعل الاستقرار هشا بعد التدخل الأجنبي.
– تجذر إشكالات الدولة في مالي، حيث إن ثمة استمرارا للأزمة الإنسانية بتشريد مئات الآلاف من اللاجئين، إضافة إلى الإبقاء بحدود الإشكالات الكبرى في أبعادها السياسية المتعددة للقضية الأزوادية، وإعادة إنتاج إشكالية التعايش بين المكونات الشعبية. كما أن ثمة ترابطا وثيقا بين التنمية الاقتصادية والتسوية السياسية في مالي، وما لم يتحقق ذلك فقد تذهب جهود ما بعد الحرب في مالي في اتجاه عدم الاستقرار مرة أخرى.
– إشكالات الإرهاب العابر للحدود والمتمدد في الساحل والصحراء، إذ إن التدخل الأجنبي في شمال مالي كشف أنه من الصعب الاعتماد على المواجهة القطرية لخطر الإرهاب، كما لا يمكن المجازفة بالاعتراف بزواله، خاصة مع قدرة الجماعات المسلحة على الكمون والعودة مرة أخرى. فرغم تباين الرؤية والمنطلقات والاستراتيجيات بين جماعات التوحيد والجهاد في غرب افريقيا، وأنصار الدين والقاعدة في بلاد المغرب الاسلامى إلا إننا لا نستطيع القول باجتثاثهم مطلقا وليس أمامنا من خيار إلا الركون إلى فرضية إنهم إما ذهبوا إلى ليبيا أو سوريا أو هم في مرحلة “بيات شتوي” تكتيكي واستراتيجي معا، مع الاعتراف أن التدخل الفرنسي نجح في حصرهم في جبال ايفوغاس، إضافة إلى أن المقاربة الموريتانية في محاربة الإرهاب وغلق حدودها قلصت من قدرتهم على الحركة فى اتجاه الصحراء، ومنعهم من القدرة على تجنيد عاصر جديدة الشباب.
بيد أن ثمة محفزات إقليمية قد تساعد تلك الجماعات المسلحة على الظهور مرة أخرى، حيث إن ثمة مؤشرات على تنامي عناصر القاعدة في جنوب ليبيا في محاولة لضرب المصالح الفرنسية في النيجر، خاصة مناجم اليورانيوم” بارليت” في شمال النيجر، أضف إلى ذلك، استمرار فضاء الساحل الأفريقي كمرتع لاقتصاد الجريمة تنشط فيه عصابات المخدرات وتجارة الأسلحة، بما يمثل قاعدة اقتصادية تمكن الجماعات المسلحة من البزوغ مجددا.
ومن هنا سيكون من الوجيه التساؤل عن حقيقة المكاسب التي تحققت وحجم المصاعب المنتظرة في الدولة المالية بعد التدخل الأجنبي لطرد الجماعات المسلحة ، فهل بذلت كل هذه الجهود والفاتورة السياسية والسيادية والاقتصادية والإنسانية لمجرد ضمان العودة إلى المربع الأول؟ أم أن الوضع المالي كان يتطلب علاجًا بالصدمة لتنقية الأرضية السياسية للانطلاق، يتم فيه التخلص من الخطر الإرهابي، والتفرغ لمعالجة الإشكالات الوطنية السياسية، وتداعيات التدخل الأجنبي.
المقال الأصلي منشور اليوم الأحد، من طرف المركز الاقليمي للدراسات الاستيراتيجية في القاهرة، وهو مساهمة في زاوية التحليلات وتقدير المواقف.
(*) محمد ولد سيدي أحمدفال الوداني هو أستاذ علم الاجتماع السياسي، ورئيس سابق لشعبة الفلسفة وعلم الاجتماع.
وحالياً؛ منسق ماستر (التنمية والتحولات الاجتماعية)، في كلية الآداب والعلوم الانسانية بجامعة نواكشوط
ورئيس المركز الموريتاني للبحوث والدراسات الانسانية ــ مبدأ.