لقد أثبتت التجربة الإنسانية فشل الحياة البدائية أوالطبيعية (الحالةالأصليةState of Nature) وهي حالة افتراضية كان الإنسان فيها ذئب للإنسان في حرب الكل ضد الكل يعزفون سيمفونية : ( البقاء للأقوى ) فالكل يشكل مصدر خوف وإزعاج للكل، تماما كغابة من الحيوانات الضارية ،القوي فيها يفترس الضعيف والضعيف يترصد لافتراس القوي، وهي حالة كان الفرد فيها معرضا للموت القسري في كل لحظة.
إذ كانت غرائز حب السيطرة وحب المال ، وحب البقاء هي المحرك الأساسي لإنسان ماقبل الدولة .-(وهي في نظر البعض تشبه الى حدما فترة السيبة التي عرفتها أرض البلاد السائبة في مرحلة ما قبل وصول الاستعمار الفرنسي )– وقد كان قانون الغاب هذا هو الحالة السائدة في تلك الحياة البدائية او الحالة الاصلية في منظور توماس هوبز رغم اختلافه في هذه النقطة مع زميليه منظري العقد الإجتماعي ،جون لوك و جان جاك وروسو، إلا أنهم يؤمنون معه بضرورة وحتمية افتراض ابرام عقد بين الإنسان و الإنسان بين الحاكم والمحكوم للخروج بالإنسان من الطبيعة إلى المجتمع.
فالحياة الاجتماعية حتمية يفرضها الواقع والتاريخ, ولا يمكن تخطيها، لسبب بسيط ألا وهو حاجة الفرد لإشباع حاجات بيولوجية ونفسية ومادية… لا سبيل لإشباعها خارج نطاق( التعايش) السلمي الذي يفترض وجود اتفاق أو عقد اجتماعيcontrat social لتكون الغاية من هذ العقد هي إيجاد حالة من التوازن تساعد المجتمع على الاستمرار في الوجود لضمان عدم العودة الى حالة الطبيعة ، فلا معنى للحديث عن مفاهيم كالثقافة والحضارة والدولة والسلطة والنظام والقانون والأخلاق والمساواة والعدالة والحرية والرفاهية ….. إلا بافتراض حياة اجتماعية مستقرة و منظمة تكون حاضنة لهذه المفاهيم وقد تمثل الدولة في نظر البعض أرقى أنواع تلك التنظيمات الحاضنة .
ولا تزال التجربة الإنسانية مرة أخرى تثبت أهمية تلك الفرضية المتمثلة في ضرورة وجود هذا العقد الاجتماعي بغض النظر عن طبيعة العلاقة بين أطرافه , بحيث يمكن قياس مدى تطور مجتمع معين بمدى صدقية وقوة ذلك العقد وانسجام أطرافه فيما بينهم واعتراف كل طرف بالطرف الآخر في علاقة بنيوية يحرص الجميع على احترامها, ليس فقط إيمانا بها، بل بشعور واقتناع كل فرد في قرارة نفسه بارتباط بقائه ووجوده شخصيا ببقاء ووجود ذلك العقد ، لتكون المعادلة قائمة لأن العلة تدور مع معلولها في الوجود والعدم.
إن المتتبع لمجرى الأحداث في هذ العالم خلال العشرية الأخيرة ليدرك تماما أن رياح التغيير فيما حولنا قد أصبحت سمة بارزة وأننا قد دخلنا باستحقاق في موسم انفراط العقود بجميع مستوياتها فعقود السلام أضحت عقود عداء ،وأمست عقود الولاء عقود جفاء، فأصبح المألوف غريبا وتنكرت الطبيعة والإنسان ولم تعد البداهة حدسا لا يحتاج إلى برهان .
ولقد هبت تلك الرياح (عاصفة ) بعالمنا الإفريقي حاملة معها رعود حروب أهلية وانقلابات ومجاعات وانقسامات ، ولم يسلم عالمنا العربي من تلك الرياح إذ هبت (إعصارا) يقتلع جذور شجرة الأخوة وحسن الجوار والتعايش السلمي بين مكونات المجتمع ، قبل اقتلاعها للدكتاتورية والإستبداد ، بل إن البعض بات يخشى خروجها عن السيطرة حتى لا تعصف بكيان الدولة والوحدة الترابية . وما قوم امادو توماني تورى ، و القذافي ، وبن علي ، وبشار، ومبارك، وعلي عبد الله منا ببعيد.
وتفاديا لهبوب تلك الرياح العاتية على منكبنا البرزخي وقبل ضياع هذه الفرصة الثمينة –وهي لا تكرركما تعلمون – فإن كل محب للوطن و للسلام يتمنى إن كان لا مفر منها أن تهب علينا لا عاصفة ولا إعصارا بل(نسيما ) يتحول إلى سحب تمطر الربوع رحمة بالحاضر و البادي بالإنسان والحيوان .
ولكي لا نعود القهقرى فإنه يتوجب علي جميع الفاعلين في بلاد المنارة والرباط ، إجراء حوار عاجل جاد وهادف تمثل فيه مختلف الحساسيات السياسية والإثنية لوضع خارطة طريق لإشاعة ثقافة التسامح والإخاء و روح العدل والمساواة بدلا من التهميش والتشرذم البغيضين ,ففي الحديث الشريف( دعوها فإنها منتنة) كي تتمخض هذه الخارطة عن إبرام العقد الاجتماعي الجديد لهذ البلد le nouveau contrat social جاعلا من مبادئ الشريعة الإسلامية ، ومن نظريات جان جاك روسو ، ومن الخصوصية المحلية مصادر مباشرة لديموقراطيتنا الفتية تجسيدا لأحكام هذ العقد المقدس.
وسوف لن يكون لهذ العقد الجديد أي معنى أومشروعية قبل أن يشكل( انفراطه)هاجسا وكابوسا تخشاه جميع الأطراف حكاما ومحكومين خوفا من العودة الى حالة الطبيعة و استهجانا منهم لعزف تلك السيمفونية المقيتة (البقاء للأقوى) وحرصهم على الاستعاضة عنها بنغمات نشيدنا الوطني (كن للإله ناصرا وأنكر المناكرا….) تعزف على أوتار جوقة موسيقانا العسكرية بتلحين الفنان الكبير سيداتي ول آب.
و لن تكون لهذ العقد الجديد قوته القانونية وشرعيته إلا حينما يصدر كتعبير أو تجسيد أسمى لإرادة الشعب في التعايش السلمي وفي تسيير ثروات البلد بشفافية تامة وتكافؤ للفرص ، وبمساواة الجميع أمام القانون تجسيدا لشعار الجمهورية : شرف –إخاء –عدل ، ولن يتأتى ذلك حتى يقتنع الجميع بأن رهان الفوضى رهان خاسر لأن رياح الفوضى قد تجري لا سمح الله بما لا تشتهي السفن.
فهل من مستجيب ؟
بقلم : محمد عبد الله ولد محمد يحي