فإذا بالمشكلة التي تعيشها البلاد منذ استقلالها تتحول من طور التقصير في حلها إلى طور تهديد الكيان في وجوده بعد أن تشعبت وتعقدت ما يعني وجود خلل في مناهج وآليات التعاطي مع القضية. كانت المشكلة بداية مشكلة العرب والأفارقة وازدادت خطورة مع تفاقم قضية الحراطين بمظالمها الواضحة والمطالبات المشروعة التي تختلف من فصيل إلى فصيل أو من حزب لآخر ليصل الخطاب في بعض الأحيان إلى طرح لا يراعي كثيرا الحكمة وفصل الخطاب. وظهر حراك المعلمين بمطالب تستحق النظر والمعالجة.
لسنا بدعا في بلاد اللـه الواسعة ، فكثير من البلدان تعيش فيها أعراق وثقافات وهويات وطوائف وأديان مختلفة لكن بعضها تجاوز هذه المشاكل وشق طريقه نحو التنمية والتقدم وحول التنوع إلى ثراء وقوة وبعضها عجز عن حلها فكانت النتيجة الحروب والدماء والخوف والرعب .
لكن السؤال الذي يطرح نفسه هو لماذا تمكنت بعض البلدان من حل مشاكل تعدد العرقيات والثقافات بينما عجزت أخرى عن ذلك ؟ لا يمكن طبعا أن نحصر الإجابة في سبب واحد فهناك أسباب متعددة – ولكل بلد ظروفه- من أبرزها، في تقديري، نبذ التعصب واحترام الآخر والتحلي بالمسؤولية والحرص على المصلحة العامة وآلية تجسيد ذلك كله إنما هي الحوار.
وهذه ، حسب تصوري، إحدى نقاط الضعف الكبيرة في بلدنا ، فنحن أهملنا الحوار واجتهدنا في إغلاق أبواب التواصل بين مكونات شعبنا عن قصد أو عن غير قصد ، خاصة على المستويين الثقافي والاجتماعي .
والحوار ليس هو الجدال والخصام والمغالبة وإظهار أننا أقوى حجة بل الحوار هو اللين والكلمة الطيبة مع المقصد الحسن والإصغاء الجيد والتجرد من الأحكام المسبقة والحرص على ما يجمع والبعد عما يفرق، يقول تعالى {ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن} وقال تعالى مخاطبا سيدنا موسى وأخاه هارون عليهما السلام : { فقولا له قولا لينا} ، هذا أمر لنبي اللـه موسى ولأخيه هارون بأن يخاطبا فرعون الذي طغى وتجبر خطابا لينا ، وقال النبي صلى اللـه عليه وسلم ( الكلمة الطيبة صدقة) وقال عليه الصلاة والسلام ( لا تحقرن من المعروف شيئا ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق).
ولو طبقنا هذه النصوص ، وغيرها كثير ،على واقعنا لوجدنا أننا انصرفنا عن المنهج القرآني وعن السنة النبوية الشريفة.
فنحن نتحاور بأحكام مسبقة وبمنهج المغالبة أو الإقصاء أي أنت وأنا بينما الهدف أن ننتقل جميعا من مرحلة أنت وأنا أو أنتم ونحن إلى مرحلة نحن التي تجمع الجميع أو من مرحلة الفرقاء و(الخصوم) إلى مرحلة الأشقاء والشركاء خاصة إذا ما استحضرنا أن أمنا واحدة هي موريتانيا وأنها تسعنا جميعا وأن خيرها يكفينا وزيادة .
كما يجب أن لا ننسى قوله { وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند اللـه أتقاكم} وقول النبي صلى اللـه عليه وسلم ( كلكم لآدم وآدم من تراب.. ) لكن بعضنا حول المعنى إلى : ليقصي بعضكم بعضا قال تعالى : {واتل عليهم نبأ بني آدم بالحق إذ قربا قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر قال لأقتلنك قال إنما يتقبل اللـه من المتقين لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف اللـه رب العالمين}..
تعالوا نقوم بقراءة سريعة لواقعنا
الواقع المشاهد يقول إننا نعيش في مجموعات مغلقة ، فالبيظان ينظمون مناسباتهم الاجتماعية وحدهم دون دعوة أبناء المجموعة الإفريقية وكذلك إخوتنا الأفارقة يعيشون في مجتمعهم بصورة منفصلة عن العرب فكما للبيظان مثلا مساجدهم فكذلك للأفارقة مساجدهم ، ولكل فريق طريقته في تنظيم الأفراح والأتراح ومن النادر أن تجد حضورا مشتركا في مثل هذه المناسبات. طبعا هناك مناسبات دينية لبعض الأسر والمشايخ تجمع المكونات المختلفة لكن ذلك يظل استثناء أو حالات خاصة.
أما اللغة فهي الإشكال الأكبر وربما تكون هي بيت القصيد بالنسبة لقضيتنا فإن كان بعض الأطفال الأفارقة يعرفون الحسانية فإن الأطفال العرب ، إلا ما ندر ، لا يعرفون السنوكية أو الولفية او البلارية . وكيف للأطفال أن يعرفوا لغات إخوتهم إذا كان الآباء والأمهات يجهلونها .
إذا كان رب البيت بالدف ضاربا فلا تلم الصبيان فيه على الرقص
طبعا لا إشكال في تعدد اللغات بل إن ذلك من مصادر ثراء الثقافة وجمالها لكن الإشكال يظهر عندما تتحول اللغة إلى حاجز يمنع التواصل أو يذكي العصبيات.
إذن فنحن جميعا عندنا مشكلة تواصل قبل أن تكون مشكلة حوار والنتائج الطبيعية لهذه الوضعية هي تثبيت الحواجز النفسية وتغذية الأوهام والتوجس من القرب من الآخر حتى وإن كان أخا في الدين والوطن والإنسانية (فالعيش مثلا أو لاخ أو تيري عبارات شتي لمعنى واحد أثارت جدلا قويا بين أصحابها حسب الحكاية الشعبية ).
لنأخذ مثلا الأحداث التي حصلت في نهاية الثمانينيات ابتداء من محاولة الضباط التكارير الانقلاب على نظام الرئيس معاوية ولد سيد أحمد الطايع ، وأظن أنها كانت محاولة غير حكيمة لأنه لا يعقل أن ينظم انقلاب عسكري من قبل مجموعة تمثل الأقلية لأن الوضع لن يستقر لها بغض النظر عن الدوافع وراء المحاولة. لكن ردة الفعل التي حصلت بعد ذلك حملت معها تجاوزات ومآسي لا يمكن تبريرها ، قال تعالى {.ولا تزر وازرة وزر أخرى} وقال صلى اللـه عليه وسلم (لا ضرر ولا ضرار). فالذي حدث ، مع الأسف، أن كثيرا من إخوتنا الأفارقة وخاصة التكارير دفعوا ثمن أخطاء غيرهم.
وعموما هذه أخطاء يتحملها النظام السياسي الذي كان قائما آنذاك وربما له قراءته وتبريراته، فإدارة دفة الحكم والحفاظ على الأمن و الاستقرار تقتضي بعض الاجتهادات التي قد نختلف أو نتفق عليها وقد تفضي إلى أخطاء وتجاوزات لكن الصورة الكاملة قد تكون أكثر تعقيدا ولا يدركها الناس العاديون من أمثالنا وإن كانت القراءة الظاهرة توحي بأن الذي حصل خلال السنوات 1987 و89 و91 ليس مقبولا لا شرعا ولا إنسانيا، ويتحمل في نظري المجتمع بصفة عامة بمشايخه وعلمائه ومثقفيه وسياسييه وإعلاميه بطريقة أو أخرى جزءا من المسؤولية ، كيف ذلك.؟
لو كان عندنا بعد نظر وإدراك لخطورة هذا النوع من الأحداث لتحرك العلماء والنخبة عموما ونصحوا ولاة الأمر وبينوا لهم أن الذي حصل من مجازر بدم بارد ضد أبنائنا من الأفارقة لا يقره دين ولا قانون ويتعين محاسبة كل من تورط فيه وبالموازاة مع ذلك ، التحرك إلى أسر الضحايا ومجتمعاتهم لمواساتهم وإنكار هذا المنكر والتبرؤ ممن ارتكبه من باب ( من رأى منكم منكرا فليغيره) وإظهار موقف الشرع من هذه المأساة والتأكيد على أن الشرع لا يقر الظلم وأنه لا حصانة للظالمين أيا كان عرقهم أو أصلهم. وبذلك نرسل رسالة طمأنة لأهلنا مفادها أن المسألة ليست مسالة عرقية أو عنصرية وأن الظلم مرفوض في حق أي مواطن وأن من أجرم في حق الضحايا أجرم في حق جميع الموريتانيين.
وأضعف الإيمان أن نطالب جميعا بلجنة تحقيق محايدة تحقق في تلك الأحداث وتنصف الضحايا وتنير الرأي العام الوطني حول كل الملابسات. أما وأن هذا لم يحصل فماذا نتوقع من أهلنا في الضفة ؟، سيؤولون الأمر على أنه مجرد تصفية عرقية وسيزداد الألم والحزن في قلوبهم وترث الأجيال القادمة ذلك الألم الدفين الذي قد يترصد الفرصة المناسبة للانتقام.
ألم يسهم ضعف التواصل أو انعدامه في تعميق هذه المشكلة ؟ الآن تثار ضجة حول حضور رئيس حزب تواصل لمؤتمر فلام بحجة أنها حركة عنصرية ويثار جدل حول إيرا و”تطرفها”: لكن السؤال الذي يجب أن يطرح ما هو البديل؟
صحيح أن لحركة فلام بعض الطرح المتطرف أو هكذا يفهم من سياقات خطابهم وخاصة فكرة فلام حول الحكم الذاتي التي تعتبر تطورا خطيرا إذ أنه قد يكون مقدمة لما هو أخطر ، فمجرد الحديث عن هذا الموضوع قد يزيد من شحن الأجواء ويعقد سبل التوافق والمصالحة الوطنية، خاصة إذا ما قارنا وضع الأقلية الإفريقية في موريتانيا مع الجيران في مالي مثلا فإخوتنا لهم حق تولي كل الوظائف الأساسية في البلد وتقلد بعضهم فعلا مناصب سيادية في فترات ومناسبات متعددة مثلهم مثل غيرهم من أبناء المجموعة الرئيسة وإضافة لذلك فإن النظرة الموضوعية لهذا الطلب تجعله غير واقعي إذ أن إخوتنا الأفارقة لا يشكلون أغلبية أو كتلة متجانسة في أي من الولايات التي يتركزون فيها ، فإذا حصلوا على الحكم الذاتي فسيواجهون نفس المشكلة ، إذ ستكون معهم مجموعات عربية وستتكرر المعضلة ذاتها. وهذا عكس الحال في مالي الذي يعيش في شماله وغربه الطوارق والعرب في مجموعات متجانسة إلى حد كبير باستثناء ربما مدينة تنبوكتو المتعددة الأعراق وحتى الآن لم يحصلوا على الحكم الذاتي ، كما أن حضورهم في الإدارة المركزية محدود .
يرى إخوتنا أفارقة وخاصة حركة فلام ،أنهم ظلموا سياسيا وثقافيا على مدى ظهور الدولة الحديثة فلم يجدوا هويتهم الثقافية ولم يشركوا بالشكل المطلوب في الثروة والسلطة ومع ذلك تعرضوا للتصفية والتهجير الجماعي ومن أبرز القضايا التي يركزون عليها قضية اللغة.
ربما تكون اللغة هي مربط الفرس في قضية الوحدة الوطنية، وعلى الرغم من مرارة الاستعمار وهيمنته الثقافية إلا أن فريق الرئيس المختار ولد داداه رحمه الله كان فريقا منسجما فقد أشرك الطلاب العرب والأفارقة في مدرسة واحدة وأسكنهم سكنا طلابيا واحدا، الشيء الذي فقدناه مع الإصلاحات التعليمية المتتالية وخاصة إصلاح 79 الذي كرس الفصل بين العنصر العربي والعنصر الإفريقي لغويا وأعتقد بشكل موضوعي أن رجال العنصر العربي في الدولة آنذاك قدموا تنازلات كبيرة للعنصر الافريقي خطبا لوده إذ قبلوا لهم كتابة لغاتهم بحرف لغة مستعمرنا جميعا خروجا علي ما وجدوا عند الآباء من كتابة لهذه اللغات بالحرف العربي ، ولم ينته الأمر إلى هذا الحد بل ظلت فئة من الإخوة الأفارقة متمسكة بلغة المستعمر في الوقت الذي كان سقف مطالبهم ترسيم لغاتهم وكتابتها و تدريسها وهذا ما حصل حرفا بحرف.
وعموما فإن منطق الأشياء يقول إنه لابد لكل بلد من لغة جامعة تكون هي لغة الإدارة والمناهج التعليمية ، وفي بلدنا اللغة العربية هي لغة الأكثرية التي يجب أن تجمع الجميع مع منح فسحة عادلة لجميع اللغات الوطنية الأخرى . ففي الولايات المتحدة مثلا نظموا استفتاء للاختيار بين الإنجليزية والألمانية فاختار الشعب اللغة الإنجليزية بأغلبية 51% وأصبحت هي اللغة الرسمية للولايات المتحدة إلى يومنا هذا. والغريب في الأمر أننا في موريتانيا نناقش قضية التعريب وهل اللغة العربية هي اللغة الرسمية أو الجامعة ، بينما الدول الإفريقية جنوب الصحراء ، وهي دول غير عربية، تسعى جاهدة لتعزيز مكانة اللغة العربية في مناهجها التعليمية وإدماج خريجي اللغة العربية في الحياة العامة وفي مؤسسات الدولة وذلك في إطار مشروع حضاري كبير تدعمه بعض مؤسسات التمويل الدولية.
قضية الحراطين
أما قضية الحراطين فلم يعد بالإمكان السكوت عنها ولا عن غيرها من المطالب الحقوقية للفئات الأخرى فالأمر لم يعد يحتمل كثيرا من الجدل وتضييع الوقت في البحث في الماضي وتحميل هذا الطرف أو ذاك المسؤولية والخطأ. فنحن نحتاج اليوم إلى حل لهذه القضية يشارك فيه الجميع دون استثناء ، وذلك لا يتأتى إلا بالحوار ودراسة الموضوع بشكل صحيح وعميق وتصحيح المفاهيم وأعتقد أن المحاور التي ذكرها مؤخرا أخونا الدكتور محمد المهدي محمد البشير يمكن أن يبنى عليها لإعداد جدول أعمال متكامل لدراسة قضية الحراطين بطريقة ترفع اللبس وتصحح المسار وتوجه البوصلة نحو المصالحة والإنصاف والبناء بدل تضييع الوقت في تبادل التهم وخلط المفاهيم.
يقول الدكتور محمد المهدي :الحديث عن “الرق” في موريتانيا يشبه حركة المرور في مدينة نواكشوط – لا قواعد منهجية ولا رؤية معرفية { ولكل وجهة هو موليها } – حيث يتم الخلط بين أكثر من 10 مجالات : 1- موقف الإسلام المنزل ..2 – التنزيل الفقهي لهذا الموقف على الواقع ( مختصر خليل)..3- ممارسة المسلمين التاريخية ..4- ممارسة الشناقطة التاريخية ..5 – موقف الفقهاء الموريتانيين ..6- حقيقة ما هو موجود في المجتمع الموريتاني “المعاصر”..7- مخلفات الرق ( الفقر، والجهل، والتهميش) ..8- موقف المشرع الموريتاني ( القوانين).. 9 – موقف النظام الرسمي … 10 – موقف المنظمات المدافعة عن حقوق الإنسان.
نظرية المؤامرة
يثار جدل منذ فترات طويلة حول نظرية المؤامرة ، إذ أصبح كل شيء عندنا مؤامرة من اليهود ومن الغرب ومن الأعداء ، والواقع والشواهد تؤكد وجود بعض ذلك لكن هذا لا يعني أن كل فشل نعانيه أو كل مشكلة تواجهنا هي من تدبير الآخرين ، فافلام مؤامرة وإيرا مؤامرة وحراك لمعلمين مؤامرة ، فإذا كانت هذه مؤامرات واكتشفناها فيجب أن نتصرف على ذلك الأساس ونكشف بشكل لا يدع مجالا للشك هذه المؤامرات المزعومة وننشر الحقائق لإنارة الرأي العام.
ثم وحتى إن ثبتت هذه المؤامرة المزعومة فيجب أن نترك خط الرجعة لضحاياها أو نعطيهم فرصة التوبة لأنهم في النهاية أبناء وطن ، والأهم من ذلك أنه إذا ثبتت هذه المؤامرة فيجب أن نستفيد منها ونحصن أنفسنا ضد المتآمرين ما دمنا اكتشفناهم حتى لا يورطونا مرة أخرى.
ولكن الأمر المحير هو تكرار أسطوانة المؤامرة على مدى حقب من الزمن دون أن نحرك ساكنا ، فأين عقولنا ؟ هل اليهود مثلا أذكى منا أو أقدر على التخطيط؟ لماذا لا نستعمل عقولنا ونتآمر عليهم إن لزم الأمر؟. أما أن نبقى نكرر مؤامرة عند كل صغيرة أو كبيرة ولا نستفيد من ذلك إلا سد باب الحوار وترك التواصل مع أبناء جلدتنا ، فلا أرى في ذلك إلا الفشل بعينه.
الحوار هو الحل
الحوار إذن هو الحل وهو الوسيلة الصحيحة لمعالجة أية أي قضية مهما كانت خطورتها ، لأن البديل هو الفتن والحروب وعدم الاستقرار وتبادل الاتهام بالعنصرية والعمالة والتآمر.
فليس الحل في وصف هذا الطرف أو ذاك بالعنصرية ومقاطعته لأن من وصفته بالعنصرية سيصفك الوصف ذاته وربما أكثر من ذلك ونتيجة ذلك هي فقدان أي أرضية للحوار والتواصل والتفاهم .
نحن بحاجة لسياسة احتواء إيجابي لكن بصورة متبادلة .
لماذا مثلا لا ينظم مؤتمر “فلام” في إحدى المناطق الموريتانية الداخلية في وسط عربي وينظم للمشاركين حفل استقبال وترحيب متميز فيه الإبل والخيل ونحو ذلك مع حفل ثقافي ويحضر معهم الأعيان والمثقفون ويشاركون في مناقشة القضايا التي تطرح ، فأيها أقرب للتأثير أن نصف جماعة فلام بالعنصرية أم نستقبلهم في بيوتنا وننظم مؤتمرهم ونفتح لهم قبل ذلك قلوبنا ونشاركهم في مناقشة كل القضايا التي تهمهم؟
وبالمقابل لماذا مثلا لا ينظم للأحزاب ذات الخلفية القومية العربية لقاءات في إحدى قرى التكارير أو الفلان أو السنونكي ويشاركهم الأعيان هناك النقاش والحوار ويستضيفونهم ويستقبلونهم بطرقهم المعهودة في الضيافة، ولماذا لا يكون قادة إيرا من “البيظان” ومن الأوساط التي كانت تتحمل مسؤولية المظالم التي تعرض لها الحراطين؟
نحن أمام واقع لا مفر من علاجه فقد ولى عهد حل المشاكل بالسجون والإعدامات وإخفاء الحقائق في الظلام. فالحوار هو الحل والتواصل يعزز أرضية الحوار ويمهد للحل المتكامل .
ثم بعد ذلك لماذا لا نفكر في إدخال مناهج أو مصطلحات جديدة نرسل بها رسائل إيجابية للمخالفين؟ لماذا مثلا لا نرسخ فكرة “الإيثار السياسي أو الثقافي” ؟ أو لنقل لماذا لا نتبادل المواقع فيتبنى “البيظاني ” مطالب “الحرطاني ” والعربي مطالب إخوته الأفارقة ، – وإن كانت العرب عادة تعين القادم ولا تعين الراحل- ويكون هو المدافع عنها بينما يتبنى الإفريقي مخاوف أو هواجس المجموعة العربية ويكون هو المدافع عنها وهكذا الحال بالنسبة للفئات الأخرى.
والرسائل الإيجابية يجب أن تكون من الجميع ، تتحمل طبعا المجموعة الأكبر من حيث الكثافة والسيطرة النصيب الأساسي من تلك الرسائل الإيجابية لكن ذلك لا يعفي المجموعات الأخرى التي تطالب بحقوقها وتعبر عن مظالمها من تقديم تلك الرسائل الإيجابية .
فوصف المجتمع العربي أو بعض فئاته بالعنصرية والاستعباد والشعوذة والدجل وبصورة منتظمة وفي كل مناسبة وبدون مناسبة وشيطنة مجموعة معينة وتحويلها إلى شر مطلق وأن المجموعة العربية تعاني من عقدة العروبة ، كل ذلك لن يفيد ولن يكون سبيلا لتحقيق أي مطلب. نعم حدثت مظالم من مجموعات العرب والزوايا ضد لحراطين ولمعلمين لكن ذلك لا يعني أنه ليس في الزوايا والعرب أي خير ، فقد كان لهم من أعمال البر والخير ونشر الإسلام ونشر العلم ما لا يمكن إنكاره ، فميزان العدل مطلوب قال تعالى { ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى}.
والأهم من ذلك أن تلك أحداث حدثت في ماض انصرم ولا علاقة للأجيال الحاضرة بها ولا يعقل تحميل الجيل الحالي مسؤوليتها وإلا فإننا نحشر القوم في الزاوية ومن حشر في الزاوية سيتصرف ،غالبا ، خارج طور العقل والمنطق وتكون النتيجة تبادل المواقع فيصح ضحية الأمس هو ظالم اليوم.
يقول المفكر ناجي محمد الإمام : التعبئة على كراهية الشريك في الوطن والدين وتحميله مظالم من موروثات طبائع المجتمعات القديمة، و شحن النفوس بالحقد والأوهام المريضة ، قد يولد انفجارات تسبب مآسي و تُجدِّدُ مظالم أخطر وقد تستبدل ظالما بظالم جديد وتورث أحقادا مستجدة وتهيئ لدوامة من الانتقام والانتقام المضاد أشدُّ فتكا و أخطر أثراً من تلك التي كانت في حكم المنتهية بحتمية انتفاء ظروفها الموضوعية”.
نحن إذن بحاجة إلى مراجعة منهجنا في الحوار والتواصل من أجل وطننا وأجيالنا المستقبلية ويكفي أن ننظر حولنا وخارج حدودنا لنعرف أن طريق الحوار والتوافق والإيثار أفضل بكثير من منهج المغالبة والمكابرة وتبادل الاتهام بالمؤامرة وتجاهل حقوق ومظالم الفئات الأخرى.
لماذا لا نعزز طرائق التواصل؟
لماذا مثلا لا يخطب إمام الجامع في كيهدي خطبة العيد أو الجمعة في شنقيط ؟ ولماذا لا يخطب إمام الجامع في العيون خطبة العيد في مدينة سيلبابي ؟ ولماذا لا نقيم ندوة تعريفية بالحاج عمر الفوتي أو الحاج محمود با في تجكجة ونقيم ندوة تعريفية عن سيدي عبد اللـه بن الحاج إبراهيم في بوغي أو نقيم ندوة مماثلة عن الشيخ محمد المامي أو محمد يحي الولاتي في انباني ؟ وهكذا.
لماذا لا نرسل بعض طلاب محاظر البيظان إلى محاظر التكارير؟ ونرسل بعض طلاب محاظر الولوف إلى محاظر البيظان ..؟ ولماذا لا يرسل العرب الصغار يتعلمون القرآن في منطقة النهر ونستقبل بعض أبنائنا من الفلان أو السوننكي في بعض المناطق الداخلية للغرض ذاته؟ ونكسب بذلك تعلم لغاتنا وسهولة التواصل بين أجيلنا.
لماذا عندما ننظم دعوة لأصدقائنا لا نوجه الدعوة إلا لفئة واحدة ؟ فلماذا لا يدعو الفلاني العربي ويدعو العربي التكروري والحرطاني البيظاني. لماذا لا يلبس البيظان ملابس الأفارقة في الأعياد وكذلك الأفارقة يلبسون الثياب العربية في المناسبات ذاتها؟
لماذا لا ننظم حفلات زواج مشتركة ولماذا لا نشجع الزواج بين مختلف الفئات الإفريقي من العربية والحرطاني من الزاوية والبيظاني من الحرطانية؟ لماذا إذا كنا في جنازة عربي مثلا لا نجد غالبا إلا العرب وإذا كنا في جنازة ولوفية لا نجد إلا الأفارقة في الغالب؟ والحديث هنا عن الأغلب فهناك استثناءات وحالات معينة يجتمع فيها الجميع كما ذكرنا سابقا.
لا مفر ولا سبيل أمامنا لحل مشاكلنا إلا الحوار والحوار يأتي بنتيجة أفضل إذا كنا نفهم بعضنا وسبيل ذلك تعزيز التواصل .
هذا البلد ليس للعربي لأنه عربي وليس للإفريقي ولا للحرطاني لأمر في ذواتهما ، إنها بلادنا جميعا ونحتاج فيها إلى العدل والمساواة وذلك لا يتم إلا بالتفاهم والحوار وترسيخ روح المواطنة وبناء دولة المؤسسات لا دولة القبائل والأفراد والمجموعات. (لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى).
ذهب أحدهم في مسعى لجمع التبرعات لبناء مسجد وجاء إلى رجل وطرح عليه الفكرة فبصق هذا الرجل في كف الساعي للخير فرد هذا الأخير : هذه لي فماذا للـه ؟ فاستحى الرجل بسبب قوة منطق وحجة فاعل الخير وتحكمه في رد فعله وإيجابيته وتحمل بناء المسجد بالكامل.
فهل نتبع هذا النموذج ؟ إذا قال الإفريقي للعربي أنت عنصري فالأسلم لنا جميعا أن يرد العربي: هذه لي فماذا للـه وماذا للوطن وماذا للأجيال القادمة ؟ وهكذا أيضا إن قالها العربي للإفريقي أو قالها لمعلم للزاوي أو قالها الحرطاني للبيظاني، الرد الأمثل هو : هذه لي فماذا للـه وماذا لموريتانيا؟