الشباب يضيء “المدينة القديمة” وينعش “شارع الأربعين عالماً” بالتسجيلات العلمية
وادان ـ سعيد ولد حبيب
أسدل الستار على مهرجان المدن القديمة وبدأت مدينة وادان تستعيد هدوء وسكينة التاريخ بعد أيام من جلبة وحركية وصفتها وزيرة الثقافة الموريتانية، سيسه منت بيده بأنها “نفض الغبار عن الثقافة المطمورة”، غبار كانت الرياح جاهزة لتتلقفه.
كانت النسخة الثانية من المهرجان مسرحاً لعدة فعاليات متنوعة، تعاقبت عليه الثقافة مع الفلكلور والرياضة، كما كان استحضار التاريخ قوياً حيث برزت إلى الوجود “الرفكة”، تلك القافلة التي جابت طرقات المدينة في عملية تقمص حي لتاريخ من الازدهار التجاري كانت فيه مدينة وادان ملتقى طرق قوافل الصحراء.
كما كان الليل في المدينة مسكوناً بهمس التاريخ وأنفاسه، ينعشه مداحون مجدون يرون في تزامن المهرجان مع ذكرى مولد المصطفى عليه أفضل الصلوات والتسليم فرصة للإبداع، فكان العيد في الليل عبادة حقيقية وإحياء لتراث من المدائح والأذكار.
لم يمض المهرجان قبل أن تجد سوق المدينة فرصة لاستعادة الحياة والذاكرة، فكان زاخراً بالبضائع والصناعات التقليدية التي تحكي قصص الماضي، وتجسد عادات وتسد حاجات لم تعد مطروحة في هذا العصر ولكنها لا شك ستجد مكاناً لائقا في قلوب السياح وفسحة على حائط أوروبي يعشق احتضان التراث الإنساني.
حكايات من التاريخ..
تم استعراض تاريخ المدينة بجميع حقبه على ألسن المحاضرين، حيث أقيمت ندوات ومحاضرات تحت الخيام تطرقت إلى تاريخ وادان ودور علمائها في نشر الثقافة الإسلامية في ربوع إفريقيا، وتنوعت مناهج المحاضرين من الأكاديمي إلى الحكواتي.
كما كان للآثار والمخطوطات دور كبير في استحضار تاريخ المدينة، حيث كانت تشهد على حقب وضاءة من تاريخ المدينة الإسلامي، حين كانت وادان شريانا علميا واقتصادياً تزودت منه المدن الأثرية الأخرى كشنقيط وولاتة وتيشيت.
المحاضرون لم يتوقفوا عند رواية التاريخ ونبشه، بل إنهم تناولوا بالبحث والتحليل أسباب الهجرة والنزوح التي عانت منها المدينة، فالحروب كانت أول العوامل التي اتفقوا عليها كسبب للهجرة من المدينة، وذلك بناء على اكتشاف رفات بشرية قرب المدينة في الستينيات من القرن الماضي، وهو ما اعتبره الباحثون دليلاً واضحا على الحرب والقتال قبل قرون.
لم تكن الحرب وحدها الآفة التي عانت منها المدينة بل كان هنالك الجفاف وتحول مسار التجارة مع ظهور السفن ووسائل النقل الحديثة واعتماد القوى الاستعمارية على وسائل أكثر تطورا في النقل، مما جعل السكان الأصليين لوادان يتركون مهنا عاشوا عليها لقرون أمام قلة الحاجة إليها.
وبعد أن أصبحت المدينة التاريخية في عزلة تامة عن بقية العالم، وهجرها أغلب سكانها، بقيت شواهد الماضي من كنوز معرفية ومخطوطات أثرية فريسة لمختلف العوامل الطبيعية من تصحر وجفاف، حيث تهدمت بيوت بكاملها على ما بها من كتب ومخطوطات، فيما عجزت طرق الصيانة التقليدية والتي تعتمد على صناديق الحديد عن الاحتفاظ بما بقي سليماً معافى، ليبقى في النهاية النزر القليل من آثار تدل على أن حضارة بشرية ضاهت في إشعاعها مدنا وحواضر في المغرب والمشرق.. قد مرت من هنا !
شباب وادان..
كان حضور شباب المدينة واضحا من خلال أنشطة متنوعة أبرزها إنعاش شارع “الأربعين عالماً” بدروس وإرشادات تبث عبر مكبرات صوت تم تثبيتها عند كل بوابات المنازل القديمة التي تقع على جنبات الشارع، فكانت ترافق الداخل إلى المدينة القديمة لتضيف هيبة إلى هيبتها المستمد من تصميم حجري فريد على شكل القلاع العسكرية.
وفي الليل تبدو المدينة القديمة متلألئة بمصابيع أشرف على تثبيتها شباب أسسوا قبل ثلاثة أعوام “مبادرة وادان منارة علم”، عضو المبادرة محمدن باب ولد حدال يقول إنهم قاموا بعملية عنونة واسعة لمدينتهم، كما قاموا بعرض لافتات لمجموعة أعلام وعرض بعض المخطوطات النادرة، وذلك إسهاما منهم في إبراز الأوجه الوضاءة من تاريخ المدينة العريقة، حسب تعبيره.
لم يجد الشباب صعوبة في تجميل مدينة تخدمها قسوة الجغرافيا الجميلة، فتظهر من بعيد كمدينة معلقة تتمدد فوق الجبل، حيث يعتقد البعض أنها توجد فوق مستوى سطح البحر بما يقارب ألف قدم، وتحيط بها وديان في سفح الجبل تزينها واحات النخيل بشموخها، وحقول القمح والشعير والخضروات بما توحي به من سكينة.
كل هذه المناظر تعيد إلى الذهن التفسير الأسطوري لاسم المدينة، والذي قال سيدي عبد الله ولد الحاج إبراهيم إن أصله (واديان): واد علمٍ وواد تمرٍ..!