قبل أمس كنت أصلي في مسجد “مدينة” بمقاطعة المذرذرة جنوبي موريتانيا (وإن لا ضرورة لهذا التحديد الجغرافي) كنت هناك عندما أخبر أحدهم الإمام الفاضل ولد أدي بخبر وفاة الشيخ دمب كالو في المستشفى الوطني بانواكشوط ..انتابت الرجل هستيريا لم يتمكن من السيطرة عليها وظل يكرر وهو يتمشى بين الصفوف عبارة :كم نفع دمب ولم يضر..ثم أضاف أيها المصلون:لقد فقد هذا المسجد أباه الذي كان يوفر له كل شيء..انظروا تلك الساعة الجدارية هو من اشتراها والتفت يمينا وأضاف :وهذا الدولاب المر فف هو من اشتراه..اطلبوا الرحمة لمن ظل يدفع عنا فاتورة الكهرباء ويعين في المصاريف الأخرى.. واطلبوا لنا العناية من بعده..وعاد لتكرار عبارته كم نفع الناس ولم يضر..لاإله إلا الله.
في سرادق العزاء بدار الفقيد تنوعت أحاديث الناس وغصنا خلال ثلاثة أيام مرت كالدقائق في تاريخ موريتانيا الحديث والقديم معا وأسهبنا في الحديث عن دور الرجل في ملحمة البناء وبعد كل قصة كنا نخلص إلى أن أن أمثال الراحل دمب كالو كانوا أفضل منا, فقد آمنوا بأنهم مؤتمنون على مصالح العباد وليسوا ملاكا لما في خزائن الأرض..
شق الرجل بجسده قرنا من الزمن دون أن يسيء إلى أحد المسافرين معه في رحلة الحياة ودون أن يغضب أحدا ودون أن يزعج أحدا..
عرفته خلال سنواته الأخيرة ..في البداية تخشاه لأنه اسم كبير وهامة كبيرة لكنك سرعان ما تخشى عليه من نفسك حين تتقرب منه..ستعرف أن الرجل حساس ويميل إلى الهدوء والانشغال بما هو مقدم عليه يوما من الأيام.. وكأنه اعتبر حياته للآخرين منتهية مذ خروجه من الوظيفة..لتبدأ حياته لنفسه, والحقيقة أن حياته الأولى مع دنيويتها كانت تعبيدا للطريق الذي سيسير عليه إلى أخراه.
شاءت الأقدار أن أصاحب و أؤاخي ابنه محمدن, فتحولت معه والأصدقاء إلى أبناء لرجل سيتضح لنا لاحقا انه من بناة هذا البلد ومن خيرة رجاله.
دمب كالو كان حاضرا فاعلا في تحول البلاد إلى السيادة التامة عبر تحويله صندوق الضمان الاجتماعي من اندر إلى نواكشوط وعبر مرتنته المستشفى الوطني وعبر إنشائه مقاطعات إستراتيجية كمقاطعة الركيز وعبر توطيد الوحدة بين مكونات الشعب بحل النزاعات الحدودية الخطيرة( من أمثال ذلك حله لنزاع عقاري بين قبائل في مكان حمل اسمه “شلخت دمب” اعترافا من الساكنة بدور الرجل في امتصاص ما كان سيؤدي إلى حرب قبلية) وعبر أشياء أخرى لا مجال لحصرها..
حين عرض عليه الأب المؤسس المختار ولد داداه أن يكون مديرا عاما للأمن الوطني كان الرئيس يدرك مغزى أن يكون الرجل المحترم المهاب في هذا المكان, فالبلاد تحتاج لرجل يعطي الثقة للجميع..رفض الإداري الطيب بأدب تحمل هذه الأمانة..خلال أيامه الأخيرة كنت حاضرا عندما سأله محمدن عن هذا التكليف فقال إنه لم يستسغه, ولم يزدنا مبتسما كعادته على أنه لم يستسغه, لكن الحقيقة الواضحة هي أن الرجل خبر الإدارة واحتك بالمواطنين كحاكم وقائد للدائرة وخلص إلى أن الدولة قد تلجأ لاستخدام القوة التي لا يمكن التكهن بمنتهاها..دمب لا يريد أن يكون الهراوة التي تؤلم الناس ثم تذهب بهذا الجرم إلى بارئها.
ارتبط الراحل بعلاقات أثرت في حياته أيما تأثير..كان دائم الحديث عن حبه للأمير الراحل محمد فال ولد عمير وعن أنه أخوه وليس صديقه.. حتى في آخر أيامه كان يقول:ولد عمير دللني”خصرني” ومازلت أفتقده..وهنا يقول أحد الرجال(عضو أول بعثة موريتانية إلى الأمم المتحدة وإداري مخضرم) إنه كان يراسل الأمير المنفي في أرضه عبر الإداري دمب رغم الحرج والخوف الذي يتملك الجميع في تلك الفترة من أعداء الأمير في السلطة الحاكمة..يقول أعمر ولد أحميده إنه كان في تولوز بفرنسا حين كان يرسل الرسائل ويتلقاها من ولدعمير عبر “دمب كالو” رغم المخاطر..وربما ليس صدفة أن يشيد منزله على بعد أمتار من منزل صديقه الأمير الثائر..
عن علاقات دمب كالو بالساسة والسكان في مقاطعته لا أحد يتكلم بعد لمرابط ولدببها وأحمد ولد أباه والقاضي ببها ..الأخير نظم فيه شعرا ذاع وتناقله الناس.
ذكر دمب في جبال تكانت وأودية الشرق قصة أخرى لما يتم الحديث عنها بعد, فهناك يعتبرون ابن الصنكة ابنهم البار..كل بيت يعزي فيه البيت الذي يليه..ذكره هناك مازال نديا..كلما هم بأن يذبل أمطره الله ذكرا حسنا آخر وهكذا إلى نهاية الأبد..
حين تعيش قرنا من الزمان في المذرذرة ولا تتخندق سياسيا ذلك أمر شبه مستحيل, لأن تاريخ البلد في مجمله تشكل بين تلك الدور..حين لا تغضب أحدا في المذرذرة طيلة هذه المدة فذلك أمر صعب لأن المدينة فوران من المراجل السياسية والاجتماعية والفكرية والعقدية..إنها البعث والإخوان والتحرر والثورات الاجتماعية والأدب والفن.. لكن دمب استطاع ذلك فخرج من كل هذا كما دخله عام 1920 يحبه الجميع ويتمنى الجميع أن يمر من أمامهم دائما سالكا دربه نحو مسجد “مدينة” الذي سيظل يدعو له بالرحمة والمغفرة ..وستظل الساعة الجدارية توقظ الإمام ليقول رحم الله من أعانني بك على عبادة ربي واستدعاء العباد لعبادته..وسوف لن ينفد شحن الجدارية وسوف لن تنقطع الإنارة ولن يظلم المسجد مادام بشير ومحمدن والأخوات الفاضلات على قيد الحياة, فكلهم من دمب جاءوا ومنه نهلوا…رحم الله والد الجميع وأسكنه مكانا يليق بمن كان يسكن بيت الله حتى آخر لحظة في حياته..
والله إن العين لتدمع وإن القلب ليحزن لكننا لن نقول إلا ما يرضي الرب سبحانه وتعالى.
إنا لله وإنا إليه راجعون والحمد أولا وآخرا لله رب العالمين.
نص شعري بالمناسبة
بدر توارى في سماء “إيكيدي”
قبل القريب بكاه كل بعيد
مابين مغربه ومشرقه التقى
دمعي بدمع للأنام مديد
إني على بعدي سكبت مدامعي
من فرط حزن في الفؤاد شديد
وبكيت حتى جف من فرط البكا
بحر الدموع وفاض بحر قصيدي
فأود إرسال الدموع سواخنا
لايكيدي,هل من مسعف ببريد
ابكى فتاها دمب شيخ شيوخها
كالو, عديم المثل في التوحيد
أبكي عبادة قانت متأهب
للقاء وعد صادق ووعيد
ابكي صلاة في رحاب مساجد
وطهارة في ملبس وصعيد
وزعامة دون الأماجد نالها
بطريف مجد في الورى وتليد
وبعزة وبحكمة تبدو لدى
إبداء رأي في الأمور سديد
أولاه لطفا في الجنان ورحمة
رب محيط لطفه بعبيد
وأرى بنيه –وإن رأوه- سبيله
لا ضير في التأكيد, بالتأكيد
ثم الصلاة على النبي وأله
سٌرٌج الهدى وأئمة التوحيد