صباح أمس الأحد؛ تقرير طبي متكامل سلمه الأطباء لذويه. أحدهم أسَر لمقربيه أنه لم يكن يتوقع أن يبقى على قيد الحياة بعد الخميس الماضي؛ قبل أن يكشف أن الأعضاء الحيوية توقفت عن العمل أمس، وهو ما يعني أنه دخل مرحلة الاحتضار الأخير؛ وإن استدرك الدكتور قائلا “مع ذلك فالأعمار بيد الله”. حينها بدأت مداومة خاصة لمقربي ولد عبدي تناوبوا خلال فتراتها على تلاوة القرآن عند رأسه. وكل يلقى ما اعتبر نظرة الوداع الأخير.
أمام الغرفة في الطابق الثالث دعوات وعيون دامعة وحالة من اليأس الممزوج بالأمل؛ وعلى صفحات مواقع التواصل الاجتماعي تعاز تُقدم لذويه وهو مازال على قيد الحياة. متصلون بعضهم يعزي وآخرون يبحثون عن التأكيد والنفي. فيما توارى بعض الأشخاص الذين سربوا الخبر عن الأنظار بعد أن ضاقت بهم جنبات مستشفى المفرق الفسيحة، قبل أن ينصفهم القادم.
الرابعة و28 دقيقة عصرا؛ فتحت الغرفة ومعها الخبر اليقين أن الفارس ترجل. لتبدأ مشاورات ماراتونية بشأن المنطقة التي سيوارى فيها جثمان الفقيد الثرى؛ فرضيات ثلاث (موريتانيا؛ وأبوظبي، والمدينة المنورة)؛ والأخيرة أرجح بناء على رغبة زوجته وأبنائه ووفاءً لوصيته بدفنه فيها ، وهو سعي حاول أقاربه تحقيقه خلال الأيام الأخيرة؛ ولم تسعفهم حالته الصحية بتحقيقه عندما جهزت طائرة خاصة وفريق طبي لنقله إلى مستشفى عسكري في المدينة المنورة. قبل أن يؤكد الأطباء أن الأمر يتطلب تحسنا في وضعية صحية باتت حرجة.
تحركات على مستويات عدة وترتيبات مع السفارة السعودية في أبوظبي للحصول إلى إذن بنقل الجثمان إلى المدينة المنورة؛ وفي حال تعذر ذلك ستتم عملية الدفن في أبوظبي. لتطوى بذلك مسيرة شخصية ثقافية وأدبية ملئت الآفاق وذاع صيتها في موريتانيا كما هو الحال في الامارات وعديد الأقطار العربية.
المرض المشاع
خلال الفترة الأخيرة؛ كان ولد عبدي يطلع أقاربه وأصدقائه وزائريها على حقيقة مرضه بثقة كبيرة في ربه؛ مؤكدا أنه مرتاح نفسيا لأنه يعتبر هذا المرض تنبيه سابق لأوانه وبالتالي عليه الاستعداد الرحيل.
غالبية جلسائه؛ قالوا إنه عمد إلى أحاديث روحانية مفعمة بالأمل وهو يخاطب معايديه؛ دون أن يهمل الجوانب الثقافية وهموم موريتانيا شغله الشاغل رغم الغربة واكراهات الواقع. وأن إيمانه كان أقوى من المرض.
كان قلب الرجل مفتوحا للجميع كما بيته؛ يعلق أحدهم؛ ويعرف عنه الكثيرون التواضع والابتسامة التي تسع الجميع؛ لذلك واكبت الجالية الموريتانية محطة ولد عبدي الأخيرة بإقبال غير مسبوق ومن كل الامارات حضروا، وبعضهم رابط عند بوابات المستشفى طيلة فترة الحجز وهي مشاهد تؤكد مكانة الرجل ومواقفه المشهودة مع أفراد الجالية.
قبل شهر ونيف؛ حملت قاعة الانتظار بأحد المطارات خبرا غير سار للراحل ولد عبدي؛ رسالة نصية تؤكد وفاة صديقه ومديره العام محمد خلف المزروعي مستشار الثقافة والتراث بديوان ولي عهد أبوظبي، ورئيس لجنة المهرجانات والبرامج الثقافية والتراثية بأبوظبي في حادث سير مروع. كانت صدمة كبيرة بالنسبة له نظرا لطبيعة العلاقة بينهما؛ وحرص المزروعي على شفاء ولد عبدي والحفاظ على مكانته في هيئة أبوظبي للثقافة والسياحة.
يقول أقارب ولد عبدي، الذي يملك تأمينا صحيا دوليا من الهيئة التي يعمل بها؛ إن محمد خلف المزروعي خاطبه ذات مرة قائلا “اختر أي مكان في العالم للعلاج ونحن نكفل بدفع التكاليف المادية، هدفنا الوحيد أن تشفى”.
اليوم يرحل ولد عبدي عن دنيانا تاركا خلفه إرثا ثقافيا سيبقى ذكره في الآفاق، وآلاف المعجبين والمحبين في الامارات وفي بلده الأم؛ سيذكرون أشعارا محملة من بجبال راسيات من الرفض؛ ودراسات نقدية نالت حظها من التثمين وقد تحصد ما هو أكثر في قادمات الأيام.
هاجر.. “اتقاءً للسقوط”
كثيرون لا يدركون الدوافع التي قادت الرجل للتغرب عن وطنه الأم موريتانيا كل هذه الأعوام الطويلة؛ وإن أجاب الدكتور محمد ولد عبدي عن هذا الاستفهام في مقابلة سابقة مع الشاعر الموريتاني الشيخ النوه؛ عندما سأله عن سبب غيابه الإعلامي في التسعينات برد ولد عبدي:”بخصوص سؤالك عن غيابي الاعلامي في عقد التسعينيات، فأنت ربما تعرف سياقات تلك المرحلة واكراهاتها وطنيا: فلقد اتّسمت بتصنيم السلطة والتهافت عليها، وتشيِّئِ القيم وامتهانها، وسقوطِ القناعات الايديولوجية وتكشّفِ أقنعةِ ذويها، مما دفعني مُجبرا إلى الهجرة، اتقاءً للسُّقوط في وَحَل ذلك الواقع النَّكِد المتدني، الذي تمرغ فيه الساسةُ والمثقفون دون حياء، وتهافت فيه الشعراءُ والكتابُ على القصر الرمادي متأبطين المجازَ عساهم به يقتاتون، دونما شعور منهم جميعا بأنهم همْ من خلق من السلطة طاغوتا وهم من رفعوا أعلامَ قبائلهم وجهاتِهم وفئاتِهم عاليةً على سارية العلم الوطني، فأجهزوا على ما تَبقَّى من وطنٍ هشاشتُه في المنشإ بادية، فهل لي وقد حملتُ هذا الوعيَ ألا أتحملَ تبعات تبنيه؟ ذاك ما كان”.
سيرة حافلة
رحل الشاعر والناقد والخبير الثقافي الدكتور محمد ولد عبدي؛ قبل يومين من إكماله خمسين عاما؛ وهو من مواليد 30-12- 1964 بمدينة كرو شرقي موريتانيا؛ متزوج وله أربعة أبناء؛ خلف الراحل خلفه إرثا ثقافيا كبيرا وهو الحاصل على شهادة الدكتوراه في مناهج النقد الحديث من جامعة محمد الخامس- الرباط؛ والتي نال منها في العام 1988 شهادة الدراسات العليا 1988. وقبل ذلك وفي صغره حفظ القرآن الكريم على يد والده محمد المصطفى ولد عبدي، ودرس متون اللغة العربية والفقه المالكي على مشايخ منطقته ومن أبرزهم الشيخ المرابط الحاج بن فحفُ والشيخ الناجي بن محمود وغيرهما.
خلف الرجل ما يزيد على 12 مؤلفا ما بين الدواويين الشعرية والدراسات النقدية؛ أبرزها دواوين “كتاب الرّحيل وتليه الفصوص 2008؛ الأرض السائبة 1995؛ وبرك الكلام 1989. أما ابرز الدراسات التي أعدها فهي “السياق والأنساق في الثقافة الموريتانية – الشعر نموذجا- (نقد ثقافي) 2008؛ تفكيكات : “مقاربات نقدية في نصوص إماراتية ” (نقد) 2005؛ فتنة الأثر: ” على خطى ابن بطوطة في الآناضول” (أدب الرحلة).2001؛ ما بعد المليون شاعر: مدخل لقراءة الشعر الموريتاني المعاصر (نقد)1999؛ جدلية الشرق والغرب في الشعر العربي المعاصر (نقد) 1988؛ تحقيق كتاب: عمدة الأديب في معرفة القريض والنسيب: لابي عبد الله الكمليلي 1986. وله قيد الانجاز دراسة وتحقيق كتاب “موانح الأنس في رحلتي إلى القدس” لمصطفى أسعد اللقيمي.
ترجمت بعض قصائده إلى اللغات: الفرنسية والانجليزية والبولندية، والالمانية. و يعد من أهم رواد الحداثة الشعرية في موريتانيا أبداعا شعريا وتأصيلا نقديا.
مشوار التألق الوظيفي بدأه الراحل من موريتانيا وتحديدا العمل الصحفي؛ حيث عمل لمدة عشر سنوات كاتبا صحفيا ومدققا لغويا في الوكالة الموريتانية للأنباء في الفترة ما بين 1980 و1990؛ ثم أستاذا لمناهج النقد الحديث في المدرسة العليا للتعليم، نواكشوط- 1988- 1990م.
في العام 1991؛ هاجر إلى دولة الامارات ليبدأ رحلة ناجحة في مجالات البحث والتأليف والتخطيط الثقافي؛ حتى بات من متصدري المشهد الثقافي في الامارات من خلال عمله مخططا ثقافيا بهيئة أبوظبي للثقافة والتراث- أبوظبي. منذ 2006 وإلى وفاته؛ وقبلها عمل باحثا ورئيسا لقسم الثقافة بالمجمع الثقافي في أبو ظبي من فبرير2005 إلى غاية ديسمبر 2006؛ وباحثاً ورئيسا لقسم المخطوطات باللجنة العليا للتراث والتاريخ بدولة الإمارات العربية المتحدة من يوليو 1991 ولغاية سبتمبر 1999.
وخلال هذه الفترة أشرف على إدارة الكثير من الفعاليات الثقافية أبرزها معرض أبوظبي الدولي للكتاب، من 2004 وحتى الآن؛ و عضو اللجنة العليا المشرفة على البرنامج الشعري الجماهيري “أمير الشعراء” الذي تنتجه وتشرف عليه هيئة أبوظبي للثقافة والتراث.
حديث النقاد
التجربة الإبداعية للدكتور محمد ولد عبدي؛ قدمت حولها عديد الدراسات ورسائل الماجستير والدكتوراه في العديد من الجامعات العربية والأجنبية كجامعة نواكشوط، وجامعة القاهرة، وجامعة محمد الخامس، وجامعة تونس الأولى، وجامعة الجزائر العاصمة، وجامعة السربون. وكتب نقاد بارزون عن تجربته؛ منهم، د. كاظم جهاد ( العراق)، و د. سعيد يقطين( المغرب) ، و د. يوسف ناوري ( المغرب)، و د. ثابت الملكاوي ( الأردن)، و د. حسن عزب (مصر)، والناقد عزت حسن (سوريا) ، ود. محمد المختار الجيلاني، د. عبد الله محمد سالم (موريتانيا)، وغيرهم. وله العديد من الدراسات والبحوث الموثّقة في الكثير من المجلات المحكمة.