نواكشوط ـ محمد ناجي ولد أحمدو
ليلة الأحد الماضية، وقبيل منتصف الليل، تجمع الآلاف في باحة جامع ابن عباس بالعاصمة نواكشوط، لتأدية صلاة الجنازة على عقل موريتاني استثنائي.. غاب فجأة في أحد مستشفيات العاصمة الفرنسية باريس.
يحي ولد حامدٌ.. قصة نبوغ؛ لم يقدره ذووه، في حين احتفى به الغرباء.. حتى وفاته التي شكلت صدمة للوسط الرياضياتي العالمي، لم تتجاوز أن تمر كأي خبر عابر على صفحات المواقع الالكترونية الموريتانية، في حين لم تجد طريقها إلى الإعلام الرسمي مطلقا، عدا عن بيان تعزية قصير ويتيم؛ صدر بعد أربعة أيام من رحيله، عن مجلس جائزة شنقيط.
كان يقال عن العالم الثالث؛ إنه لا يقدر مبدعيه إلا بعد رحيلهم، لكنه في حالة يحى؛ أصبح المبدعون لا يقدرون أحياء ولا أمواتا، يقول أحد الموريتانيين على موقع التواصل الاجتماعي الفيسبوك.
في أطار عاصمة ولاية آدرار شمال موريتانيا، وفي بيت يمتلأ هواءه بذرات الشعر والفقه والفضائل، أطل على الدنيا نهاية أربعينات القرن الماضي، طفل سيغدو بعد عقود قليلة؛ أعجوبة من أعاجيب الزمن.
سماه أبوه؛ مؤرخ موريتانيا الأكبر المختار ولد حامدٌ، يحي.. نشأ كما ينشأ أقرانه من أبناء الأسر العالمة في موريتانيا، يختلف إلى الكتاب، وفي البيت كانت المحظرة الأم.
يتكأ عالم الرياضيات الموريتاني الراحل في صمت عن العالم، على تراث علمي عريق في المعارف الدينية واللغوية المعمقة، فأبوه المختار هو من دون “حياة موريتانيا”، في نيف وأربعين مجلدا، لم تغادر كبيرة ولا صغيرة من حياة الشناقطة، وجده حامدٌ كان عالما ملء سمع الدنيا وبصرها، وقل نفس الشيء عن جد أبيه محمذن، أما جد جده فهو العالم العلامة العلم محنض بابه ولد اعبيد.. صاحب “الميسر”.. وكفى.
غير أن يحي، الإبن الثالث للمرحوم المختار ولد حامدٌ، رفد ثقافته المحظرية الموروثة، بفرادة في علم لم يخطر على أسلافه من قبل، وما المجد إلا طريف وتالد.
لم يخف نبوغ يحي منذ بواكيره، فقد كانت المرحلة الابتدائية عندها ثلاث سنوات فقط، وكما يقول المثل الموريتاني “الشوكه من سغرتها امحدده”، ليلتحق بمعهد بوتلميت للعلوم العربية واللغوية، وكان يومها يعيش عصره الذهبي.
بهر يحي الفتى، أصغر طلاب المعهد، بذكائه شيوخ المعهد، الذين كانوا يومها عناوين موريتانيا العالمة، وما ظنك بشيوخ من أمثال محمد ولد ابو مدين ومحمد يحي ولد عدود، ومن على شاكلتهما.
حمل الفتى، الذي بالكاد تصل أعوامه لعقد ونصف، عصاه، إلى قاهرة المعز، فله موعد هناك مع مرحلة أخرى من التعلم.. سبع سنوات سمان أمضاها هناك في دراسته الثانوية والجامعية، عاد منها إلى وطنه الذي يطفئ شمعته الحادية عشرة، محملا بدرجة الامتياز، والرتبة الأولى على دفعته.
وطيلة خمس سنوات، كان الشاب يحي أبرز أستاذ للرياضيات والفيزياء بثانوية نواكشوط، كما كانت تسمى الثانوية الوطنية حينها، غير أن نفسه الكبيرة لم تقنع من الغنيمة، بوظيفة أستاذ في التعليم الثانوي، “وإذا كانت النفوس كبارا تعبت في مرادها الأجسام”، على حد تعبير المتنبي.
سافر فتانا إلى مدينة النور، ليتابع دراساته العليا في الرياضيات، العلم المحبب إلى نفسه، وفي مدرجات جامعة “السربون” العتيقة، أمضى سنوات ثلاث، قبل أن يتخرج؛ وفي جعبته دكتوراه دولة؛ يرافقها امتياز مستحق.
في باريس، عمل الرجل ثلاثين سنة في المعهد الوطني للأبحاث العلمية CNRS، وهناك أنتج مئات البحوث الرائدة في الرياضيات، من بينها: – نظرية الأعداد الزائدة Théorie additive des nombres، ونظرية مينكوفيسكي Somme de Minkowiski، والمشكلات الإيزوبيريمترية Les Problèmes isopérimitriques، ونظرية زوائد المتتاليات ، Combinatoire additive des suites.
يفوق انتاج يحي في عالم البحوث الرياضية؛ كل ما أنتجه العلماء الأفارقة عبر التاريخ، وكان يحاضر بأربع لغات: الفرنسية، والانجليزية، والألمانية، والإسبانية، طبعا بالإضافة إلى اللغة العربية؛ لغته الأم، واستدعته عشرات الجامعات شرقا وغربا، للعمل أستاذا زائرا فيها.
ورغم اعتباره واحدا من ابرز علماء الرياضيات المعاصرين، إلا أنه ترحل في صمت، وبدون أي جلبة، ولا مراسيم جنائزية خاصة، و”لم تكلف وسائل الإعلام الرسمية نفسها نقل خبر بسيط عن جنازته التي حضرها الآلاف”، يعلق أحد أصدقاء الفقيد.
التكريم الوحيد الذي حصل عليه الدكتور يحي ولد حامدٌ من وطنه، كان قبل عشر سنوات؛ عندما منح جائزة شنقيط للعلوم في عهد الرئيس الأسبق معاوية ولد الطايع، رغم أنه ظل حياته متشبثا بجنسيته الموريتانية، وعاضا على انتمائه لهذا الوطن، الذي احتضن في النهاية جسده، حيث ينام في مقبرة “آمنيكير” في جنوب غرب موريتانيا، مع الراحلين من أسلافه.